حمل العدد الأخير من صحيفة
البصائر الأسبوعية، لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ردا ناريا من
رئيس الجمعية الشيخ الدكتور عبد الرزاق قسوم على اتهامه من قبل المدير الأسبق
للإذاعة الوطنية عبد القادر نور بالعمالة لفرنسا، وذلك في مقال حمل عنوان "أصحاب
الإفك.." قصف فيه "نور" ومن معه بالثقيل..
وقال الشيخ قسوم أنه عاش
معاناة وهو يتابع "في ذهول، مسرحية إعلامية، ممجوجة وسخيفة، سيئة الإخراج، قبيحة
التمثيل، يهرف ممثلها بما لا يعرف، ويخوض –في أعراض المجاهدين الشرفاء- عن سوء فهم
وبدون علم".
وأضاف شيخ علماء الجزائر:
"أجدني مضطراً، أمام هذه الهجمة العدوانية، الكاذبة، لأن اعتذر للقارئ العزيز،
إن كنت سأشذ –هذه المرة- عن طبيعة افتتاحيتي، فأجره، بدل الحديث عن قضايا وطني
وأمتي، إلى الحديث عن شخصيتي، وأسرتي".
وقال الدكتور قسوم: "يشهد
الله، أنني لا أريد بهذا الحديث عن ذاتيتي ووطنيتي، المنّ على الوطن بما فعلت، أو
التطاول على التاريخ بما صنعت. كما أنني لا أريد –كما يفعل البعض- رفع خسيستي
بعظمة فعلتي، إن الهدف هو تتويج شرف شخصيتي وأسرتي، بمجد جهادي وثورتي".
وأشار المتحدث إلى أن "بسملة
الكتاب في حياتي الثورية هي هذه الحصانة الذاتية، التي ورثتها عن أسرتي ضد أنواع
الخيانة والعمالة، فقد حصنتني بالقرآن الكريم الذي حفظته، وأنا ابن الحادية عشر
سنة، وبالتعلم العربي الإسلامي، الذي شربته مع حليب أمي، وبالقيم الإنسانية
الأخلاقية، التي لُقنتها منذ نعومة أظفاري، فنشأت –والحمد لله- محصنا ضد داء فقد
المناعة الوطنية والعقدية والأخلاقية."
وحسب الشيخ عبد الرزاق قسوم،
فإن "من يجرؤ على مهاجمة الوطن أو المعتقد، أو سب الصحابة، أو قذف أمهات
المؤمنين، لن يتورع عن مهاجمة الوطنيين أو المؤمنين، ولا سب أتباع الصحابة، ولا
رمي آباء المؤمنين بكل قذف".
سليل أسرة ثورية وعلمية
وتحدث الشيخ قسوم عن تاريخه
الثوري قائلا:
وأبدأ لأقول، بأنني سليل أسرة
ثورية وعلمية، فأسرتي بجميع أفرادها عانت السجن، والتعذيب، والتشريد. فقد احتل
بيتنا من الاستعمار بحثا عن والدي الذي كان مسؤولا عن الثورة في مدينة المغير
بلدتي، هذه الثورة المباركة التي تكونت خليتها في المسجد العتيق لمدينتنا، وأَقسم
أفراد الخلية على المصحف، بأن لا يخونوا، ولا يهنوا، وقد وفوا –والحمد لله-
بعهدهم.
عندما طُوِّق بيتنا، بوشاية من
أحد المواطنين –بعد تعذيبه- بحثا عن الوالد رحمه الله، كان قد أخذه المجاهدون إلى
الجبل، فوجدوا أخويّ عمر وإبراهيم، فأخذاهما إلى السجن، وعذباهما عذاباً نكراً.
أما أخي محمد الطاهر، فقد صعد إلى الجبل.
كما وجدوا ابن عمتي الشهيد عبد
الرحمن جابوا، الذي جاء يتفقد الدار، فأخذوه وأعدموه.
وكنت أنا، في الجزائر، لجلب
الأدوات المدرسية، لمدرسة المغير، فطلب مني أن لا أعود.
عاش والدي عبد الله قسوم في
كازمات المجاهدين بالصحراء، هو وبعض أفراد خليته، ومنهم الشيخ العالم عبد المجيد
حبّة، ومعلم القرآن الطالب الصادق الصايم، والشاب المصلح عبد القادر قرميط، رحمهم
الله جميعاً.
ومن أعضاء الخلية الأحياء، اليوم،
نذكر الشيخ الأزهري ثابت، والحاج العيد بالرمضان، ومسؤول المسبلين آنذاك، ومسؤول
المجاهدين بالمنطقة اليوم الحاج عبد الكريم بوزقاق، متع الله الجميع بالصحة.
وقد تمكن والدي، بفضل الله، ومساعدة
قائد مدينة أولاد جلال الحاج محمد بن فلاح، أن يحول أوراق المناضلين بأوراق تعريف
مزورة، فأصبح والدي عبد الله قسوم المولود بالمغير، أصبح اسمه عرعار محمد المولود
بقبيلة من قبائل أولاد جلال، وكذلك كان حال بقية المناضلين، حيث تمكنوا جميعاً، بأوراق
مزورة من أن يدخلوا العاصمة ويسكنوا في فندق شعبي، هو فندق ابن الحفّاف، الواقع في
الممر الواصل بين ساحة الشهداء، ومسجد كتشاوة المعروف، وبقوا على هذه الحال إلى
إعلان الاستقلال.
تباً للمغرضين.. وسحقاً للأفاكين
ويواصل شيخ علماء الجزائر
دفاعه عن سمعته قائلا:
أما أنا فقد بدأت حياة جديدة، من
حيث النضال ومن حيث العمل، وذلك بعد سنة 1955، وأحب أن أشير إلى أنني، عندما كنت
في المغير، رشحت أنا وأخي الصديق المرحوم عثمان بوزقاق، للانخراط في جيش التحرير
على يد الملازم –آنذاك- الاخ عبد السلام مباركية، الذي كان زميلا لنا في معهد عبد
الحميد بن باديس، غير أن الأخ مباركية رفض تجنيدنا بحجة الحاجة إلينا، في العمل
المدني، فطلب منا البقاء في الحياة المدنية، ريثما تكون الحاجة ماسة إلينا.
ومسؤول المجاهدين اليوم، ابن
المغير، الحاج عبد الكريم بوزقاق من الشاهدين على ذلك.
فمن حيث النضال، بدأت مع الأخ
محمد الصغير الأخضري، الشهيد، الذي أصبح فيما بعد الرائد سي المختار، وبعد صعوده
الجبل انتقلت إلى خلية سي صالح نور الشهيد، بواسطة الأخ زبير طوالبي.
كان الأخ صالح نور، هو قاضي
التحقيق للمحكمة الثورية، وكنت أنا أكلف أحياناً بالتحقيق في سلك المعلمين، وهكذا
ذهبت إلى مدرسة الأخ مصطفى غانم بالحراش، متعه الله بالصحة إن كان لا يزال حياً، وكذلك
الأخ علي كفاش، بمدرسة بن عمر بالقبة، متعه الله بالصحة إن كان لا يزال حياً أيضاً،
ولم أنقطع عن النضال من يومها إلى الاستقلال، كم سأعود إلى تفصيله.
أما من حيث العمل، فقد بدأت
التعليم بمدرسة السنيّة بحي بئر مراد رايس، هذه المدرسة التي لعبت دوراً نضاليا
عظيماً، ففيها كانت تكتب التعليمات الثورية، وتوزع المساعدات على أسر المجاهدين
والشهداء والمساجين، بواسطة تلاميذ المدرسة، ومعظم هؤلاء لا يزالون أحياء.
بقيتُ بهذه المدرسة مسؤولاً
عنها، إلى غاية الاستقلال، وتلاميذها، وتلميذاتها أصبحوا رجالاً ونساء، وهم كثر، ومعظمهم
أحياء.
في نهاية 58، جاءني أحد المناضلين،
وكان زميلاً لي في معهد عبد الحميد بن باديس، وسألني إن كنت أقبل أن أعمل في وكالة
الاستماع الإذاعي ببن عكنون، قلت وكيف؟ قال إن الأخ صالح نور قد دخل إليها، وأن
مشكلتها هي أن تكون مراقباً من الأمن الفرنسي، فعليك أن تكون حذراً، وعندما سألت
بعض من كانوا فيها، مثل الأخ رشيد قروي وأخيه العربي، قالا لي بأن هذه الوكالة قد
تحولت إلى خلية للثورة، عكس ما أراده الفرنسيون. ولم تكن لي ثقافة فرنسية كافية
تؤهلني لأن أكون مترجماً، فقبلت كموظف عادي، وفعلاً وجدت نفسي وسط خلية ثورية هناك
بأتم معنى الكلمة.
كان فيها كما قلت الأخ صالح
نور، الذي كان مسؤولا بالثورة كقاض للمحكمة، والأستاذ محمد الطاهر فضلاء، والأخ
زهير عبد اللطيف الذي كان مكلفاً بجمع المال، للولايتين الثالثة ثم الرابعة، وكنت
مسؤولا عن التربية والتعليم، والشؤون الاجتماعية.
وقد اعتقل الأخ صالح نور، كما
اعتقل في نفس المصلحة الأستاذ محمد الطاهر فضلاء، كما استشهد برصاص منظمة الجيش
السرية الأخ سي بشير، الذي كان يشتغل تقنيا. وأود أن أفند هنا تفنيداً قاطعاً ما
قيل من أن هذه المصلحة هي "صوت البلاد" أو "إذاعة البلاد"، فأنا
أشهد الله بأنني إلى اليوم وقد انقضت عقود ستة على الاستقلال، لا أعرف أين كان
يوجد صوت البلاد هذا، ولا من كان يعمل فيه، وتباً للمغرضين، وسحقاً للأفاكين.
جهاد متواصل..
يضيف الدكتورقسوم:
من جهتي واصلت الجهاد على أكثر
من صعيد، فقد عملت مع الولاية الثالثة بواسطة الكومندان الشيخ محمد الطيب الصديقي
نائب محمد ولد الحاج قائد الولاية، وكان الاتصال معه بواسطة ابنتيه وأقاربه الذين
كانوا يدرسون في مدرسة السنية، وكلهم اليوم أحياء رجالاً ونساء.
ولقد تشرفت بأن صعدت إلى
الولاية أثناء وقف القتال بطلب من الشيخ محمد الطيب للالتقاء به وبجنوده، وكان معي
الشيخ صالح صالح، الذي كان مدرسا بمدرسة التهذيب، ولا يزال، حفظه الله على قيد
الحياة.
كما عملت في الولاية الرابعة
مع الأخ أحمد زيغم، الذي كان اسمه الثوري "سي يحيى"، فبإشرافه كنا نوزع
المساعدات، ونتصل بالمناضلين، وننشر المناشير التي كانت تصدرها الثورة. لقد عشت
أحداثاً كثيرة، كاستشهاد الشهيد مالكي، الذي سميّ باسمه حي مالكي، وأخذنا إلى حي
لاكونكورد زميلاه اللذان أصيبا في العملية، منهما الأخ حسين الذي كان في البريد، متعه
الله بالصحة إن كان لا يزال حيا.
كذلك نظمت امتحان الشهادة
الابتدائية التي جرت في مدرسة تليملي، بمعية الأستاذ محمد منيع، والأستاذ حسين
قوايمية رحمهما الله، وذلك في يوليو 1959، والأسئلة التي طرحت لا تزال كما أعددتها
بخط يدي، وقد قلت بأن المجاهدة جميلة بوباشا كانت إحدى الممتحنات في هذه الشهادة.
كذلك كلفت من الأخ محمد زيغم، وهو
لا يزال حيا، بإعداد اللافتات التي رفعت في مظاهرات 11 ديسمبر 1960.
أشرفت بعد وقف القتال على
إذاعة محلية بالحي العربي بحي الوئام "ركونكورد" بئر مراد رايس، كانت تبث
بالعربية، والقبائلية، والفرنسية، تذيع بيانات الجبهة، والتعليمات الصادرة عنها، ومقاومة
أعمال منظمة الجيش السرية (OAS).
ومن الوثائق التي لا تزال
شاهدة أيضا، مقال نشر لي عام 1956 بجريدة البصائر بعنوان "واقع الشباب
الجزائري". كذلك مقال بعثت به من الجزائر إلى مجلة الآداب اللبنانية، بعنوان
"الأدب العربي يحتضر بالجزائر"، وأمضيت المقال بثلاثة حروف هي
"ع-أ-ق".
"أخضعت يومياتي الخاصة لواقع الثورة"
وفي ختام مقاله الناري قال
الشيخ قسوم:
كما أنني أخضعت يومياتي الخاصة
لواقع الثورة، فقد عقدت زواجي يوم الأحد فاتح نوفمبر 1959، وتم اختيار هذا اليوم
لدلالته الوطنية، وكان الاحتفال بالزواج في مدرسة التهذيب الإصلاحية بحي العين
الباردة. حضر الحفل مدير المدرسة الأستاذ محمد الحسن فضلاء، والشيخ الحفناوي هالي
أحد دعائم جمعية العلماء، الذي كان جاري طيلة أيام الثورة، وقد ألقى قصيدة شعرية
بهذه المناسبة، إلى جانب الشيخ صالح صالح، والشيخ محمد الطاهر قريقة، والشيخ عمر، وغيرهم.
وعلى هذا المنوال سميت أول
أبنائي "نضال"، إعراباً عن مواصلة النضال بعد خطاب ألقاه دوغول، واقترح
فيه على المجاهدين "سلم الشجعان".
ولا معنى للزعم بأنني طردت من
الإذاعة الوطنية في فترة الاستقلال، فأنا لم أكن أبدا موظفاً في الإذاعة، وإنما
كنت أنتج إنتاجاً ثقافياً، بدءا ببرنامج "الأقلام الجديدة"، و"الكلمات
المتقاطعة"، و"مع التيارات الإنسانية"، و"منبر الهدى"
الذي كان عام 1986، وغير ذلك.
هذه إذن بعض أفعالنا الناطقة
الصادقة، التي تدحض أقوال أصحاب الإفك الناعقة، وقد أغفلت الكثير من الوقائع، كالاعتقال،
والتعذيب، والاستنطاق، فالحديث فيها يطول، وقد يكون مجالها إن شاء الله في
المذكرات، إن كان في العمر بقية.
إذا اشتبكت دموع في خدود تبين
من بكى ممن تباكى.
وأقسم بالله العظيم أنني لم أسمع
باسم السيد عبد القادر نور إلا بعد الاستقلال، ولم أعرف اسم مسقط رأسه المسيلة إلا
منذ سنوات قليلة.
وأختم بقول الله تعالى:
﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ
قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ
عَظِيمٌ﴾ [سورة النور، الآية 16].