يرصد سؤالان فقهيان جانباً ممّا يحدث في "زمن كورونا"، والإجابة
من إملاء فضيلة الشيخ الدكتور التواتي بن التواتي الأغواطي..
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والصلاة والسلام على سيد الأولين
والآخرين.
السؤال الأول: ورد من أحدهم مفاده أن أمه
ماتت من هذا الوباء الذي حلّ بديارنا أي: "كورونا" فراح بعضهم يتشفون
فيه وإخوته ويتلفظون بلفظ "كورونا" حين يمرون عليهم ويتهامسون بينهم،
ويتغامزون.
الجواب: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: أيها الناس إنّ ذكر الأموات
بالسوء وتتبع عثراتهم بقصد التشفي والتشهير لا خير فيه، ومنهي عنه شرعا، وليعلم
الجاهل بأمور الشرع أن ما أصاب غيرك تقديرا من الله تعالى، قد يصيبك أنت أيها
المتشفي، فإن الذي أبتلاه قادر على أن يشفيه ويبتليك، كما يجب على المبتلى أن
يصبر، ويسعى إلى عدم إذاية غيره، ويجب على المتشفي أن يتوب إلى الله، ويحذر النقمة
من الله تعالى، وهذا يقتضي منا أن نبيّن حقيقة منشأ التشفي، ومضاره.
إن ظهور التشفي والشماتة في هذا الظرف، يدل على ضعف الإيمان، وأنّه لا شيء
أعظم مرارة ومشقة من شماتة الناس، ونحن في حاجة إلى الوقوف بجانب بعضها كالجسد
الواحد، نتألم بآلام بعضنا بعضا....
-وللعلم إن التشفي ينشأ عن الغضب وحقد وحسد يريد المتشفي رفعة نفسه، وخفض
غيره، وإما زوال النعمة التي هو فيها، فيذكره بالسوء -نعوذ بالله من حاله
وأفعاله-. وعلى كل فإن أسلوب التشفي هو أسلوب أهل الحقد الظلمة، والجهلة الذين
يحسبون أنهم في مناعة من حصول ما حصل لغيرهم.
وقد أجمع أهل الحق والعدل على وجوب الحذر من الشهوة الخفية في هذا الباب،
وهو أن يكون القصد من القدح مجرد التشفي ودرك الغيظ ورفع الذات أو التحاسد أو
التنازع على الرئاسة ونحو ذلك.
وإن اللمز والتجريح الذي يدل على التشفي غير مقبول من أيّ أحد ضد أيّ شخص،
وإن هذا السلوك من فعل النفوس ضعيفة الإيمان، وأن المقادير لا تدفع فالله تعالى
يصيب من يشاء.
وإياكم إياكم - أيها الطيبون-
التشفي في هذا الظرف الصعب الذي يجب فيه مواساة الناس بعضهم حتى لا يخجل
بعض ضعاف العقول من الإفصاح عما حل به من هذه الآفة التي تسمى "كورونا"،
يخفون ما بهم من مرض فتكونوا ساهمتم في انتشار المرض-والعياذ بالله-.
وعلى العكس إن تواسيتم بالحسنى والملاطفة تكونوا ساهمتم في إظهار هذا المرض
لدى الناس وجنبتم المجتمع من تفشيه في أوساطهم، فإن كان هذا همكم فلكم الأجر
مرتين: أجر الإحسان، وأجر المساهمة في إبعاد هذا الوباء عن المجتمع.
واعلموا-رحمكم الله –أنه يحرم عليكم أن تتشفي في أخيه الإنسان ولو كان عدوا
له بضرر أو ألم يلحقه فإن من يفعل ذلك قد جانب الصواب وابتعد عن الحق، وحرم نفسه
من صفة الإنسانية ومن صفة المحسنين الذين يحبهم الله تعالى: ( وَاللَّهُ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ ) آل عمران: ١٣٤
ويجب على المسلم أن يكون رحيما بأخيه: أي: يرحم من أصابه ضرر أو آفة ولا
يكون همه التشفي وإشباع النفس وهواها، إن ذلك من شيم النفوس المريضة، وإذا كانت
بينك وبين غيرك إحن وعداوة سابقة فحين تحل به مصيبة من المصائب فيجب الصفح الجميل
والعفو قال الراغب: لذة العفو أطيب من لذة التشفي؛ لأن لذة العفو يلحقها حمد
العاقبة ولذة التشفي يلحقها ذم الندم والعقوبة وآلام حالات ذوي القدرة وهي طرف من
الجزع. انتهى قوله.
ولا خلاف بين الفقهاء في استحباب التعزية لمن أصابته مصيبة. والأصل في
مشروعيتها: خبر: «من عزى مصابا فله مثل أجره». أخرجه الترمذي من حديث ابن
مسعود رضي الله عنه مرفوعا ، وضعفه ابن
حجر في التلخيص.
وإن هذه الآفات التي حلت بالبشرية يجب تلافيها بالتآزر والتعاون، والتضرع
إلى الله أن يرفع عن الناس جميعا هذا البلاء الذي حلّ بالبشرية يجب أن نوقن أن هذا
البلاء من الله سبحانه وتعالى: ( مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا
فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ) الحديد: ٢٢،
ولنكثر من الاستغفار، والرجوع إلى الله متناسين الأحقاد والعداوة والبغضاء.
وأنتم أيها المصابون في أمكم لا يسعني إلاّ أن أعزيكم فيما أصابكم واعلموا
أن من مات مريضا مات شهيدا جاء في سنن ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات مريضا مات شهيدا» والحديث فيه كلام.
فتنة الإشاعات..
السؤال الثاني: ما حكم الشرع في ترويج
الشائعات قصد إثارة الفتنة؟
الجواب: هذا السؤال سبق نشره في مجلة البصائر الغراء تحت عنوان "تحريم
الشائعات المضرة بالوطن" ولا بأس من إعادته مادام الظرف يقتضيه... بدون زيادة
في تحريرها.
إن هذا الوطن الذي ذاق من الاستعمار ما ذاق من محن وأَلْقَى عليه كلكله سنين
طوال حتى قيّض الله تعالى رجالا صدقوا ما عاهدوا الله عليه فضحوا بالنفس والنفيس
وسقطوا في ميدان الشرف بعشرات الآلاف وكل ذلك لينعم الشعب الجزائري بالحرية
والاستقلال.
وبعد أن أذاق هؤلاء الرجال الصادقون الاستعمار البغيض الويلات وهزموه في كلّ
الجهات في ميدان القتال، وفي ميدان السياسة ولقنوه دروسا في ميدان التضحية والفداء
حتى أجبروه أن ينصاع ويمتثل لإرادة الأحرار فكانت مفاوضات "إيفيان" التي
صيغت فيها الاتفاقية بدماء الشهداء بحضور زعماء كبار صاغوها وختموها بخاتم دمائهم.
وبفضل من الله تعالى كانت الحرية والإنعتاق من عبودية الاستعمار، وتنفس
الشعب الجزائري الصعداء، وأصبح ينعم بالحرية كبقية الشعوب، وأذكّر أن هناك أمانة
يتحملها الجيل الجديد المستفيد من التضحيات الجسام، فيجب المحافظة على هذه النعمة
نعمة الحرية والوقوف صفا واحدا في وجه من يريد لهذا الوطن كيدا، وليوقن من في قلبه
إيمان بهذا الوطن أن المحافظة على الوطن جزء من الدين، وذلكم أن «حبّ الوطن من
الإيمان».
والملاحظ في زمننا أننا نسينا تلك التضحيات العظام التي ضحاها الشعب
الجزائري قاطبة، وراح بعضنا يتنافسون من أجل كسب منافع، وهذا أمر مشروع إذا كان
بأسلوب سياسي حكيم مع المحافظة على المبادئ الوطنية وألاّ يتجاوز التنافس حدوده
مما يؤدي إلى نشر الغسيل على حبال غيرنا وتعرية ظهر هذا الوطن، فيطمع فينا من كان
بالأمس يستعمرنا، ولعل التصريحات الأخيرة التي
صدرت عن "سركوزي" الرئيس الفرنسي السابق إذ توعد هذا الرجل
بمراجعة اتفاقية "إيفيان"وهذا الكلام له مدلوله ومعناه، وفي نظري نقوص
خطر يدل على أن الرجل ينظر إلينا فُرْقة وليس وحدة متماسكة.
وفي هذا الجو الذي انعدمت فيه الثقة بين عناصر الوطن الواحد، تروج الشائعات،
وتصبح الحبة قبة، ولا يجرؤ أحد على مواجهة الأمر بصراحة، وهنا أصِل إلى القصد من
هذه الفتوى فأقول-مستعينا بالله-: بوصف فقيه واجبي يحتم عليّ أن أصدع بالحق ولا
أبالي-ولا أخشى في الله لومة لائم-: أدعو كلّ الشعب الجزائري أفرادا وجمعيات
وأحزابا التوقف عن ترويج الشائعات والدعايات التي قد تكون سبباً لإضلال الناس فقد
تتلقفها قلوب الطيبين على أنها حقائق لا تقبل الشك، وأنها جاءت من مصادر موثوقة،
ولئن ثبت وقوع شيء فإن هذه الشائعات مضرة
بالوطن وإضعاف للصفوف، وإطماع وتصوير الأمة على أنها في حالة فوضى وضعف وانهيار،
والحقيقة ما هو إلا اختلاق..! مما يؤلب العوام حين تطلق تلك الشائعات التي مصدرها
التعطش إلى السلطة والتسلط ولو على حساب المصلحة العليا للوطن.
وللشائعات آثار ضارة لما تحدثه من بلبلة الأفكار وتضليل الرأي العام، والفتنة
بين الناس، وتشويه سمعة البرآء، كما أشاع المشركون على الرسول صلى الله عليه
وسلمبأنه ساحر كذاب، وأنه شاعر أو كاهن أو مجنون، وكما أشاعوا في غزوة أُحد أنه
قتل لتخذيل أصحابه.
والدافع إلى الإشاعات الكراهية المتمكنة في بعض النفوس، أو حب الظهور بالسبق
إلى معرفة ما لا يعرفه غيره، أو التنفيس عن النفس فيما حرمت من منصب أو مكانة، أو
يكون الدافع الحسد والتعطش إلى الجاه والسلطان، وتكثر الشائعات أيام الأزمات
السياسية والاقتصادية حيث يكون الجو ملائما لرواجها، وما دام ضررها ظاهر في تقويض
المجتمع وهدم البناء وتعريض الوطن للخطر.
فإني أصدر فتوى (تحرم وتجرم) المساس بالمصلحة العليا للوطن أو تعرضه لطمع
الطامعين، وإن كل من يتجرأ على العبث بمصير هذا الوطن سواء كان في الحكم أو في
الجمعيات أو في الأحزاب أو على مستوى الأفراد، ولنكون واضحين فإن فتواي هذه لا
تحظر العمل السياسي هذا ليس من شأني، ولا من اختصاصي، وإنما (تحرم شرعا )
الشائعات، والسلوكيات المضرة بالمصالح العليا للوطن، وبالمقابل فإني أشجع الاختلاف
البناء المفيد الذي يرفع من قيمة الوطن بين الأمم، وإن فتواي هذه معتمدة على نصوص
ثابتة لا تقبل التأويل-ولولا خوف الإطالة لأثبت الكثير منها-وإني لا أريد إلا
الخير لهذا الوطن وأهله.
وإني أعتبر التراشق بالكلام في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية
يعد تنازعا من أجل المناصب والكراسي، وربنا العلي العظيم نهانا عن ذلك فقال:(وَلاَ
تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال: ٤٦ واتقوا الله في هذا
الوطن وفي هذه الأمة فقودوها بحكمة وبرغبة في البناء والتشييد-والله من وراء القصد
وهو الهادي إلى الصراط المستقيم-والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.