![]() |
| أحيانا يكون الصراخ لغة التواصل الوحيدة بين الزوجين |
في منشور حاز إعجابا وتفاعلا كبيرين، أدرجه على حسابه بمنصة ميتا ـ الفيسبوك ـ صبيحة الثلاثاء 02 ديسمبر 2025، تساءل الإعلامي والكاتب الجزائري نجم الدين سيدي عثمان قائلا: لماذا لا يفهم الرجل المرأة ولا تفهم المرأة الرجل؟
وردّ صاحب كتاب "تين شوكي" على سؤاله بنفسه بهذه الفقرات التي تستحق المطالعة والتأمل:
لماذا يشكر الرجل شقيقته على طبق عادي تحضّره له، ولا يلتفت لكلّ طبخ زوجته المتقن؟ ولماذا تقدّر الزوجة أمّها لأجل شيء بسيط أحضرته، وتتجاهل الأكياس الثقيلة التي يجلبها زوجها؟
قبل الإجابة عن هذه الأسئلة، يجب أن نعرف أنّنا لا نتعامل مع مزاج أو تربية فقط، بل مع اختلاف جذري في نمط التفكير بين المرأة والرجل، اختلاف شامل في آليات الإدراك، وطريقة قراءة العالم وتفسير ما يحدث.
هناك حقيقة بسيطة، لكنّ أغلب الناس لا يكتشفونها إلّا بعد الزواج: الرجل يفكّر بطريقة… والمرأة تفكّر بطريقة أخرى تمامًا. ليست المشكلة في “زوجتك” ولا في “زوجك”، بل في اختلاف النمط الذهني لكلٍّ منهما. وما لم يفهم الإنسان هذا الاختلاف، سيعيش صدمةً بعد صدمة، وصدامًا بعد صدام، لأن الزواج - على عكس ما يظنه كثيرون - ليس قصة حب، بل مشروع حياة يحتاج فهمًا وخبرة تؤدي في النهاية إلى المودّة والرحمة.
خذ مثالًا بسيطًا يتكرّر في آلاف البيوت كلّ يوم:
الرجل يتوقع أنّ جلبه لأكياس كثيرة، وهو عائد إلى البيت يترنّح في آخر المساء، سيجعل زوجته تقدّر تعبه وتشكره. بينما هي - في أغلب الحالات - تنتظر شيئًا آخر تمامًا: أن يدخل، يلتفت إلى تعبها، يلاحظ فوضى يومها وتضحياتها، ثم يقول جملة بسيطة مثل:
“واضح أنكِ بذلتِ جهدًا كبيرًا اليوم… شكرًا لك.”
هذه الجملة عندها تساوي أضعاف تلك الأكياس، لأن النظام الوجداني لديها مبنيّ على المشاركة قبل الحلّ، بينما هو مباشر، لديه مهمّة يقوم بها وواجب يؤديه بسرعة ودون لفّ أو دوران.
وهنا تأتي الإضاءة العلمية التي يقدّمها كتاب «لماذا يكذب الرّجال… وتبكي النساء» لعالمي النفس Allan Pease وBarbara Pease. ورغم أنّهما عالِمان، فهما في الواقع زوجان أيضًا، يقيّم كلٌّ منهما الآخر داخل الكتاب من خلال السلوكيات اليومية عبر تنقيطها. وكلّما شرحا “النمط” علميًّا، ظهرت الحقيقة البسيطة:
👈العالِمة - رغم تخصصها ومستواها العلمي - تفكّر بنمط امرأة حقيقية مثل أمّك وأختك وجدّتك.
👈والعالِم - رغم خبرته ومستواه العلمي - يفكّر بنمط رجل يشبهني ويشبهك ويشبه أخيك ووالدك وكل الرجال من حولنا.
ومعنى هذا واضح:
كائنًا من تكون؛ دكتورًا، طيّارًا، عالمًا… ستبقى في النهاية رجلًا بنمط رجل.
وكائنةً من تكونين؛ قائدة طائرة، عالمة فيزياء نووية… ستبقين في النهاية امرأة بنمط امرأة.
🔹وتاريخيًّا، تشكّلت هذه الفروق بين الرجل والمرأة.
الرجل كان صيادًا:
هدف واحد، طريق مباشر، تركيز على الخطر أو الفريسة في الأفق البعيد، وقدرة على استشعار التهديد قبل ظهوره....مهاراته صُمّمت لرؤية ما هو بعيد… لا ما هو أمام عينيه بالضرورة، ودون تحليل وتمحيص للتفاصيل الصغيرة.
والمرأة كانت تدير عالمًا كاملًا داخل مساحة صغيرة:
أطفال، طعام، تفاصيل دقيقة، بكاء، نبرة ترتفع، حركة غير طبيعية...هذا جعل دماغها يطوّر مراقبة قصيرة الأفق؛ ترى كل شيء حولها في اللحظة نفسها، وكأن لديها رادارًا ذاتيًّا يلتقط أصغر الإشارات العاطفية، فتُفسّر السلوك وتقرأ العواطف وتنتظر أن يفهمها الرجل معتقدةً أنّه يملك الآليات نفسها.
👈ومن هنا نفهم المفارقة في علاقة الرجل بالمرأة:
المرأة تلتقط المشاعر فورًا، قبل أن تُقال الكلمات، بحكم حساسيتها الدقيقة للمتغيّرات الوجدانية؛ بينما الرجل لا “يراها” إلّا عندما تتحوّل إلى إشارة ملموسة: دموع، انهيار، أو تصريح واضح.
وهذا الفارق نفسه يظهر في التفاصيل اليومية وإليك مثالا يحدث في بيت كل واحد منّا:
الرجل حين يقود السيارة قادر على رؤية “ممهل” على بعد 300 متر، لكنه يقف أمام الثلاجة عاجزًا عن رؤية “الزبدة” أمام عينيه، فينادي زوجته فتخرجها فورًا.
تفسيرًا لذلك، دماغه موجَّه - منذ خُلق - للبحث عن الهدف الكبير فهو صيّاد، بينما دماغها موجَّه لالتقاط التفاصيل الدقيقة.
هذه الفروق - التي أثبتتها العلوم العصبية الحديثة - لا تحدّد من هو على حقّ، لكنها تفسّر لماذا يختلف أسلوب التواصل جذريًّا بينهما:
👈الرجل يبدأ من المنطق ثم ينتقل إلى العاطفة،
👈والمرأة تبدأ من العاطفة ثم تنتقل إلى المنطق.
فارق صغير في الظاهر… لكنّه يغيّر طريقة إدارة الحوار، وطريقة التعبير عن الغضب، وحتى طريقة طلب الاهتمام.
ومن هنا تبدأ المفارقات اليومية تحت سقف الزوجية؛
فالرجل ينتظر كلامًا مباشرًا وواضحًا، بينما المرأة تنتظر فهمًا بلا شرح.
الرجل يعتقد أن “الفعل” يكفي، والمرأة ترى أن “الكلمة” قد تكون هي الفعل الحقيقي.
الرجل يبحث عن حلّ سريع، والمرأة تبحث أوّلًا عن مشاركة وجدانية تشعرها بأنّه يراها ويفهم تعبها.
وهكذا تتراكم إحباطات صغيرة لم تُحلّ، وجُمل لم تُقل، وتوقعات لم تلبّ؛ لحظة يشعر فيها كلٌّ منهما أنّه يقوم بكلّ شيء وحده، وأنّ الآخر لا يرى جهده ولا يسمع صوته.
🔹 وفي قلب هذا التشوّش تظهر سلوكيات غير مفهومة: فلماذا يشكر الرجل شقيقته على طبق عادي، ولا يلتفت لطبق زوجته المتقن، رغم أنها تطبخ كلّ يوم؟
ولماذا تُقدّر الزوجة شيئًا تأتي به أمّها، وتتجاهل الأكياس الثقيلة التي يحملها زوجها؟
السبب أنّ نمط التفكير عند كلٍّ منهما يلتقط إشارات مختلفة تمامًا.
الرجل، بحكم إرث الصياد، ينتبه بطبيعته إلى الحدث الظاهر: الشيء الذي يأتي من الخارج، مهما كان بسيطًا. لفتة تأتي من أخت أو أمّ تلتقطها حواسّه فورًا لأنها تقع في مجال “الإشارة الخارجية” التي تعوّد دماغه على قراءتها عبر آلاف السنين. أمّا المرأة، بحكم إرث من عاش داخل البيت، فترتبط استجابتها بما يلمس دائرتها القريبة: ما يمسّ عائلتها مباشرة، ما يصدر من أمّها، ما تشعر معه بالانتماء والأمان. ولهذا قد تعطي لفتة واحدة من أمّها وزنًا أكبر من مجهود زوجها القادم من الباب.
ليست المسألة حسابًا للجهد، بل هي طريقة انتقاء تلقائية: الرجل يضخّم ما يأتي من “الخارج”، والمرأة تضخّم ما يأتي من “الداخل”. هكذا يصنع العقل فجوة صغيرة في الظاهر… لكنها تكفي لخلق سوء الفهم، والسبب أن كلٌّ منهما يرى العالم من زاوية تتوافق مع نمطه العصبي…
👈وفي وسط كلّ هذا، كلاهما يضحّي:
فالمرأة تضحي بصحتها، ونومها، ووقتها، وشبابها، وتنتظر تقديرًا قد لا يأتي.
والرجل يضحّي براحتِه، يستكثر على نفسه أبسط الأشياء، ويحمل أعباء مالية وضغوطًا صامتة لا يشكو منها حتى يصل إلى الاحتراق النفسي.
ومع أنّ كلّ طرف يبذل الكثير، إلّا أنّ أحدهما لا يرى تضحية الآخر… لأنهما يتحدثان بلغتين مختلفتين، ولم يخبرهما أحد يومًا كيف يترجم كلٌّ منهما لغة الآخر؛ فيصمت الرجل طويلًا - تعبيرًا عن شيء داخلي - بينما تتكلّم المرأة وتفضفض وتشعر أنّها غير مسموعة — تعبيرًا عن شيء داخلي - فيقرأ هو سلوكها على أنه “نكد”، وتقرأ هي صمته على أنه “هروب”.🙃
🔹 ومع مرور الوقت ـ في حالة تعطل لغة الحوار - يتحوّل البيت إلى روتين خانق. وفي هذه البيئة المربكة يكبر الأطفال وسط هذا الاضطراب، يتلقّون إشارات متناقضة، وينشأ عن ذلك مشكلات نفسية ومعرفية تعيد إنتاج الدائرة ذاتها.
وما يزيد الأمر تعقيدًا أنّ المجتمع لا يقدّم شيئًا في هذا المجال: لا المدارس تشرح، ولا العائلات تهيّئ، ولا الثقافة العامة تعلّم الأزواج كيف يتواصلون أو كيف يفهمون الفروق العاطفية...ومجتمع لا يجيد التربية الأسرية سيدفع الثمن مضاعفًا: في المحاكم، وفي المشاكل النفسية المتزايدة، وفي تفكّك الأسر، وفي ارتفاع الطلاق، خصوصًا في السنة الأولى من الزواج.
وفي النهاية، نترك الناس يقتحمون أعقد علاقة في حياتهم - أغلظ ميثاق يمكن أن يربط بين اثنين - بلا دليل، ولا تدريب، ولا شروح تساعدهم على الفهم...نتركهم يتعلّمون بالصدمة، ويدفعون ثمن جهل لم يصنعوه… بل وُلدوا فيه وورثوه!
👈ما يذهلني أن الجميع يُمتحَنون للحصول على رخصة سياقة كي يقودوا سيارة،
أمّا الزواج - وهو أعقد بكثير - فيدخلونه بلا امتحان، ولا تدريب، ولا إعداد، ولا حتى معلومات بسيطة. يدخلونه معصوبي العينين، ثم يندهشون من كثرة الاصطدامات اليومية، ويظنّون - في لحظات الإنهاك - أنّهم ارتكبوا أسوأ خيار ممكن، باختيارهم هذا الزوج أو تلك الزوجة.
والجواب: لا، لم تقم باختيار سيء... إطمئنك 😆 فارتح...
قد تسألني الآن عن الحل : فهم لغة الآخر وبذل جهد في سبيل ذلك + التقدير المتبادل + التغافل والتجاوز وتفادي المقارنات مع عدم رفع التوقعات (حذار من المسلسلات التركية) وعيش الواقع والعودة إلى ديننا الحنيف!
بين المنطق والعاطفة
وتعقيبا على منشور "سيدي عثمان"، كتب الإعلامي "عمر آجد" معلّقاً:
حقّاً، يبقى الاختلاف جوهرياً بين تفكيرٍ يقوم على العاطفة وآخر يستند إلى المنطق، ومهما بلغ المستوى العلمي للفرد، يظلُّ أصل التفكير ومنبعه ثابتاً، فينتج عنه نموذجَان مختلفان تماماً في النظر والتحليل والتعبير.
لكن في مجتمعنا يتفاقم الأمر أكثر بفعل التربية والنشأة؛ فنحن نعيش في بيئةٍ تُعامل الحب كخطئية، وتعدّ التعبير عنه جرماً لا يجوز إلا في الأماكن المغلقة، وبسرّية تامة، وللشخص المعني فقط — إن جاز أصلاً.
أما الكراهية، فمعلنةٌ، تُقال بجرأةٍ في المجالس، ولا يشعر الناس بأي حرج في إظهارها، رغم أن النبي ﷺ قدّم نموذجاً مغايراً تماماً؛ إذ وصلتنا محبّته، وعباراته تجاه أهل بيته وصحابته، فلم يرَ في التعبير عن المودّة ضعفاً ولا في إعلانها عيباً
أمّا التقدير والمسامحة وسائر صفات المودّة، فهي في جوهرها امتدادٌ لطفولة كلٍّ منّا؛ فمن لم يتلقَّ التقدير في صباه، ولم يُكافَأ في نشأته على ما يقوم به، غالباً لا يمارسه لاحقاً، ويعدّه أمراً عادياً أو واجباً لا يستحقّ الشكر عليه.
ولذلك سمّى الله العلاقة مودّة ورحمة؛ فهما وصفان إلهيّان بالغا الدقّة، ينبغي أن يحضرا في كل علاقة. فمن باب المودّة نُقدّر ما يقدّمه الآخر من أجلنا، ومن باب الرحمة نُعين ونتغاضى وندفع ونبذل من أنفسنا ما يحفظ العلاقة سليمة وقادرة على الاستمرار.
والأهم من ذلك، أن يثمر هذا الاتّزان العاطفي جيلاً سليماً في مشاعره وصفاته، قادراً على بناء أجيالٍ أقوى وأكثر اتزاناً منه.


جميل!
ردحذف