سفارة الجزائر في غزة؟
غزة: سيد إسماعيل*
كانت لحظات الوداع صعبة على الوفد الكشفي الجزائري
الزائر لغزة: مجموعة من أهم القيادات الكشفية الجزائرية قدمت لأيام معدودة؛ لإعطاء
عدد من الدروس الكشفية لكوادر الكشافة الفلسطينية التي تحتفل بمرور مائة عام على
تأسيسها، إلا أن هذه الزيارة احتفظت بـ"قدسيتها" لديهم.
كانت المرة الأولى التي يطئون فيها تراب فلسطين، وهو أمر
بدا لهم كحلم صعب، إن لم يكن مستحيلًا!، لكنهم الآن يستعدون إلى مغادرتها بعد
انتهاء زيارتهم التي مرت كالبرق.
كثير من الدموع والكلمات الدافئة التي لم تنقطع حتى بعد
الصعود إلى الحافلة، كانت حافلتهم تتجه ببطء باتجاه الجانب المصري من المعبر،
وأيديهم تستمر بالتلويح عبر الزجاج من بعيد، لتكون بذلك مشهد النهاية لرحلتهم، إلا
أنهم تركوا وراءهم "سفارة كشفية جزائرية" كانت مكسبًا هامًّا لدعم
الحركة الكشفية الفلسطينية، إذ تبنت الكشافة الإسلامية الجزائرية مشروع إنشاء مخيم
كشفي دائم، جنوب قطاع غزة؛ كي يكون بمنزلة "علامة توأمة" لأول مرة بين
حركتين كشفيتين عريقتين في البلاد العربية.
رافقتُ الوفد الجزائري خلال محطات من رحلته، إذ كان في
ضيافة وزارة الشباب والرياضة بمدينة غزة، وبدا أعضاؤه في منتهى السعادة وهم
يتجولون في مختلف شوارع قطاع غزة، بعيون تراقب الوضع من كثب، وباهتمام كبير، بحكم
أنها الزيارة الأولى لمعظم أفراد الوفد للقطاع.
المشكلة التي كنت ستواجهها في حال وجودك هناك هي اللهجة
دون شك، فلو كنت هناك _عزيزي القارئ_ لوجدت أنك بحاجة إلى "مترجم"؛ كي
تفهم ما يقال بين أعضاء الوفد، وإليك أنموذج من المحادثات التي جرت بين فردين من
أفراد الوفد:
- وين راهم الجماعة تاوعنا؟
- راهم يحوسو في كاش بلاسة، ولا بالاك راحو المارشي،
خطرش راهم حابين يشرو لي سوفونير قبل ما يسافرو.
(الترجمة: - أين
هم أفراد الوفد؟، - ربما يتجولون الآن في مكان ما، أو ربما ذهبوا إلى السوق؛ لأنهم
يريدون شراء بعض التذكارات قبل سفرهم).
جرى التعارف بيني وبين نائب القائد العام للكشافة
الجزائرية محمد بو علاق، كانت ابتسامة الرجل الأربعيني الصافية ترحب بي، حتى قبل
أن تتوالى كلمات الترحيب بلكنته الجزائرية المحببة على غرار: "مرحبا بيك آ
خويا!"، و"واشراك (كيف حالك) يا أخي؟، لا باس؟ (أي بخير؟)".
يقول بوعلاق: "لقد قدم في هذا الوفد "سفراء
غير رسميين" يمثلون الجزائر على أعلى المستويات؛ من أجل تدريب كوادركم
الكشفية، أنا _مثلًا_ أنتمي للكشافة الإسلامية منذ كنتُ في الحادية عشرة من عمري،
وتحديدًا عام 1974م، أنا أتحدث عما يقرب من أربعين عامًا من العمل الكشفي!، وكذلك
العديد من القادة الكشفيين هنا طافوا مختلف دول العالم يشاركون في الفعاليات
الكشفية المختلفة: يدربون ويتدربون، لكن القدوم إلى فلسطين المحتلة _وتحديدًا إلى
غزة_ له طعم مختلف تمامًا: لقد جئنا نؤدي واجبًا وطنيًّا تجاه إخوتنا هنا بالمقام
الأول".
لم يكن التواصل وحده _دون شك_ الهدف الوحيد؛ فقد جاء وفد
الكشافة الجزائرية كي يكونوا بمنزلة "سفراء غير رسميين" لبلادهم التي لا
توجد لديها سفارة على الأراضي الفلسطينية، إذ إن الكشافة الإسلامية تنوي إنشاء
معسكر كشفي دائم في منطقة "المحررات" بمحافظة خان يونس بمساحة 150
دونمًا، ووقعت اتفاق توأمة مع نظيرتها الفلسطينية ووزارة الثقافة والشباب والرياضة
بغزة؛ من أجل تطوير الكفاءات الكشفية بقطاع غزة، وخاصة في ظل نقص الإمكانات
المادية والبشرية الذي تعاني منه الكشافة الفلسطينية بغزة.
فلسطين
"رائدة" الحركة الكشفية العربية!
من خلال مناقشي مع عدد من أفراد الكشافة الفلسطينية
والجزائرية، بدأتُ أعلم الكثير الذي أعترف لك _عزيزي القارئ_ أنني لم أكن أعرفه من
قبل عن واقع الحركتين الكشفيتين العريقتين، بل إنني اكتشفتُ أن الحركة الكشفية
الفلسطينية أقدم وأعرق حركة كشفية عربية!، ولعل معظم الجمهور الفلسطيني لا يعرف أن
أول مجموعة كشفية عربية كانت فلسطينية، إذ كان أبناء فلسطين روادًا في هذا المجال،
إذ أسست أول مجموعة كشفية فلسطينية عام 1912م، خلال العهد العثماني التركي، ولو
راجعت _عزيزي القارئ_ كتاب "قبل الشتات" للكاتب والمؤلف وليد الخالدي؛
لوجدت به صورة لهذه المجموعة الكشفية بكامل عتادها وزيها الكشفي، مضافًا إليها
"حمار" كان من ممتلكات هذه المجموعة، وقد خصص لنقل المعدات ذات الوزن
الثقيل خلال رحلات التخييم!
وتوجد الآن العديد من المجموعات الكشفية بقطاع غزة، إلا
أن بعضها ناشط، والآخر لا يزال "غير فاعل" على الساحة الكشفية.
وكانت الكشافة الإسلامية الجزائرية ذات تاريخ لا يقل
عراقة، فقد أسست في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، قبل أن تنال اعتمادًا
رسميًّا من سلطات الاحتلال الفرنسية سنة 1936م، وكان تأسيسها بهدف تنشئة جيل من
الشباب الجزائريين المسلمين على عدد من المهارات الفردية، وبناء شخصية قوية
ومستقلة لكلٍّ منهم، وقد أثمرت النتائج بعدها بأقل من عشرين عامًا تقريبًا، عندما
تفجرت الثورة الجزائرية، وكان كبيرة من قادتها "كشفيين سابقين" بالكشافة
الإسلامية.
وقد أتت هنا زيارة الوفد الجزائري لتدعم هذه العلاقة
الأخوية بين الحركتين الكشفيتين أخيرًا، في بادرة تعزز روح الأخوة بين الشعبين على
صعيد جديد.
اليوم الأخير..
- آ نبيل، عيط للجماعة تاوعنا قولهم يزربو شوية. رانا
قريب نقلعوا!
- راهم خلصوا الفطور، وموجدين أوراحهم والباغاج ديالهم!
ما تقلقش روحك خلاص!
كانت هذه محاورة بين رئيس الوفد القائد بوعلاق، وأحد
أعضاء الوفد القائد نبيل زروال، في اليوم الأخير للوفد بغزة.
وترجمتها:- يا نبيل، نادي شبابنا وقل لهم أن يستعجلوا
قليلًا، سنتحرك من المكان بعد قليل (كانوا ساعتها يستعدون إلى السفر وترك مكان
إقامتهم).
- لقد تناولوا فطورهم، وقد جهزوا أنفسهم وأمتعتهم، لا
تقلق أبدًا.
في الحافلة الصغيرة التي ضمتنا جميعًا، فوجئتُ بأحد
أفراد الوفد الجزائري ينادي زميلًا له: "هيا، ابدأ يا عبد الناصر،
ابدأ"، شرع ساعتها رجل في الخمسينيات من عمره يقول بصوته الجهوري وجميع
الجزائريين معنا يرددون وراءه: "سبحان الذين سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين
وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا.. إلخ"، لاشك أنني
كنتُ أعلم أنه دعاء السفر، لكنني لم أتوقع أن يردد بهذا الشكل.
كان القائد الكشفي الجزائري مصطفى جابر ينظر من نافذة
الحافلة إلى شوارع غزة، وهو يبدو شارد الذهن، سألتهُ عن شعوره في هذه اللحظة؛ فقال
دون أن تترك عيناه مشهد المدينة: "غالبًا يفرح الإنسان عندما يعود إلى بيته،
إلا أنني أشعر الآن بالحزن!، دخولنا إلى غزة بدا وكأنه حلم جميل وانتهى، أصبحت
رؤيتنا لرئيس الوزراء إسماعيل هنية، وزياراتنا للمجلس التشريعي ومختلف مناطق غزة
مخزنة لدينا كأجمل ذكريات العمر".
ثم التفت وهو يقول: "هل تعلم عندما قلتُ:
"إنني ذاهب إلى غزة"، وجدتُ معظم أهلي وأقاربي يغبطونني، وهم يقولون:
"هنيئًا لك!، ستزور هذه الأرض المقدسة التي لم نستطع زيارتها قط، وقد لا تتاح
لنا الفرصة لذلك!"، هل ترى جميع أعضاء الوفد لقد اضطروا جميعًا إلى تحمل
تكاليف السفر الباهظة، ودفعوها كاملة، قادمين لخدمة أهل غزة، ولم نحظ بالتنزه سوى
سويعات فقط، فكانت أيامنا كلها هنا عملًا متواصلًا من أجل تدريب القادة الكشفيين؛
كي يصبحوا على مستوى مشرف يليق باسم فلسطين الحبيبة، هذا ما نستطيعه، وأجمل رسالة
محبة يمكننا تقديمها لإخوتنا الفلسطينيين".
اضحك مع
الجزائريين..
قبل الوصول إلى معبر رفح، توقفوا لجمع بعض الرمال من
تراب فلسطين قبل السفر، أما رئيس ديوان القائد العام للكشافة الإسلامية إسماعيل
بوزيدي فبعد أن انتهى من جمع "غنيمته" من الرمال، قال لي مستخدمًا طريقة
التعبير الجزائرية _أي تزامن الحديث وأداء إشارات اليدين في آن واحد_: "هنالك
في غزة سحر رائع جدًّا، شيء يأسرك لتشعر بأنك تنتمي إلى هذا المكان كما لو كان
وطنك بالفعل، على الرغم من أنك تراه أول مرة، بلادكم رائعة جدًّا!".
هنا احمر وجهي بفعل حركة قام بها بإحدى يديه، فقلتُ له
منبهًا: "أخي إسماعيل، احذر!، أنا أعلم أن هذه الحركة التي قمتَ بها عادية
تمامًا في بلادكم، لكن معناها في بلادنا عيب كبير!". عاد ليكررها مرة أخرى
وهو يسأل: "أتعني هذه؟!"، احمر وجهي من جديد، وأنا ألتفت خشية أن ينتبه
أحد مرافقينا الفلسطينيين إلى ما يفعله، وأنا أقول له: "نعم هذه، وأرجوك ألا
تفعلها مجددًا أمام أي فلسطيني، أو أي شخص من المشرق العربي؛ لأنها تعني..."،
وهمستُ له بمعناها، لينتقل الاحمرار إلى وجهه كذلك، وينفجر كلانا بضحكة أفرغت جل
الإحراج الذي شعرنا به!، قال لي: "إن هذه الحركة باليد إنما تعني في بلادي
"كثيرًا" أو "جدًّا" في بعض الأحيان، فأنتَ تردفها وأنت تقول،
مثلًا: "غزة رائعة جدًّا"، فنقولها ونحن نقوم بحركة اليد تلك، الحمد لله
أنك نبهتني إلى ذلك!، كانت ستصبح فضيحة عالمية لو قام بها أحدنا أمام التلفاز
_مثلًا_ أو أمام أحد المسؤولين الكبار!".
عند معبر رفح، انهمرت الدموع، وشرع كل طرف يلتقط الصور
التذكارية مع الطرف الآخر، والكل يتبادل الأرقام وعناوين حسابات مواقع البريد
الإلكتروني و(الفيس بوك)، ثم بدأت الحافلة تتحرك باتجاه الجانب المصري ببطء، وكان
الكل مستمر للتلويح للطرف الآخر.
كان آخر ما قاله لي القائد الكشفي الجزائري عبد الكريم
بلرقاع يلخص الموقف: "لن تكون زيارتنا الأخيرة، لقد أصبح للجزائر من خلالنا
"موطئ قدم" لن نفرط فيه أبدًا، سيأتي العشرات من شبابنا إلى هنا؛ كي
يتعرفوا إلى واقع فلسطين من كثب؛ لتتعزز الروابط بيننا أكثر، نحن مغادرون الآن،
ولكن اطمئن، إننا سنعود _بإذن الله_ مجددًا ومعنا خيرة أبناء الجزائر،
فانتظرونا!".
* عن موقع "فلسطين أون لاين"