لو لم يكن لجامع
الجزائر من وظيفة أخرى غير تمكين عشرات الآلاف، من الجزائريين وغيرهم، من
الصلاة فيه، لكفاه ذلك شرفا، ولكان سببا كافيا للإشادة بهذا المشروع
العملاق، فكيف به وهو جامع وجامعة ومركز للبحث العلمي ومنارة حضارية رائعة
يمكنها أن تصبح مستشفى كبيرا لكل المتطاولين من الجهلة والمتطرفين الذين
يهاجمون الآن جامع الجزائر، وهم لا يعرفون أسراره التي سنحاول الغوص فيها
من خلال هذه المتابعة التي جمعنا فيها حقائق تُنشر لأول مرة حول هذا الصرح
الذي لا مثيل له في الجزائر والعالم، سواء في جانبه العمراني أو جانبه
الوظيفي.
إضافة
إلى كونه مسجدا ـ المسجد في اللغة مكان السجود ـ كبيرا، هو "مستشفى روحي
عملاق"، وهو فضاء للبحث العلمي والدراسات الجامعية العليا في الشريعة، وهو
مكتبة عملاقة تضم مليون كتاب، وهو متحف ضخم، وهو حديقة روحية وطبيعية
خلابة، وهو أقوى بناء مضاد للزلازل بالجزائر، وربما في القارة الإفريقية،
ومن أشد البناءات مقاومة للزلازل في العالم بأسره.. وهو مركز لإنتاج
الكهرباء.. اشترك في الإعداد لإنجازه أزيد من ألف خبير من مختلف التخصصات،
وسيكلف خزينة الدولة أكثر من مليار أورو، وهو مبلغ ليس كبيرا قياسا لعظمة
المشروع الذي تعرض في الآونة الأخيرة إلى محاولات علمانية دنيئة لتشويهه
والنيل من قيمته التي لا يستشعرها من في قلوبهم مرض، نسأل الله أن يرزقهم
الشفاء العاجل.
حلم عمره نصف قرن!
إذا
كانت رؤيا سيدنا يوسف عليه وعلى نبينا أزكى الصلاة والسلام، حين رأى أحد
عشر كوكبا والشمس والقمر له ساجدين قد تحققت بعد أربعين سنة من حلمه، فإن
حلم جامع الجزائر لم يبدأ في التحقق إلا بعد خمسين سنة من بداية الحلم الذي
يجهل كثيرون أن التفكير به بدأ بعد الاستقلال مباشرة، حيث فكر القائمون
على تسيير شؤون الدولة الجزائرية بعد شهور قليلة من الاستقلال في إنجاز
معلمين عملاقين يرمز أحدهما للبعد الثقافي والانتماء الحضاري الإسلامي
للجزائر، ويشير الآخر للبعد التاريخي، وكان الحلم المزدوج يقضي بإنشاء جامع
عملاق ومركب أثري وسياحي رائع يسمى رياض الفتح، ولأسباب مختلفة تم إنجاز
المعلم الثاني الذي اختير له اسم برمزية إسلامية راقية، فالرياض هي جمع
الروضة، وهي حدائق الجنة، وهو المعلم الذي تُختصر رمزيته في مقام الشهيد،
وتحول للأسف عن طابعه الأصلي بعد أن أصبح يضم مجموعة من القاعات المتخصصة
في اللهو، وتأخر إنجاز المعلم الأول، وهو جامع الجزائر.
وقد
كان من المقرر أن يُنجز الجامع العملاق فوق هضبة العناصر، في الموقع الذي
يضم الآن قصر ووزارة الثقافة، ولكن المشروع لم يُكتب له أن يرى النور طيلة
أربعة عقود ونصف من الاستقلال، وانتظر الجزائريون العهدة الثانية للرئيس
عبد العزيز بوتفليقة ليسمعوا بإخراج المشروع الحلم من أدراج النسيان، وقد
ساعدت البحبوحة المالية التي تشهدها الجزائر في السنوات الأخيرة، بعد أن
منّ الله على الجزائر بارتفاع أسعار النفط والتحرر من أغلال المديونية
الخارجية، على التعجيل بالبدء في تحويل الحلم إلى حقيقة، وسيبقى محفوظا في
كتب التاريخ أن المشروع الذي ظل حلما طيلة عشرات السنين تحول على يد
بوتفليقة إلى حقيقة، وهو شرف ما بعده شرف، كيف لا ورسول اله محمد عليه
الصلاة والسلام يقول في الحديث الشريف المتفق عليه: "من بنى لله مسجدا بنى
الله له مثله في الجنة"..
أكثر من 1000 خبير ساهموا في إعداد المشروع
قبل
أن تفوز الشركة الصينية "شاينا ستايت كونستراكشن"، في خريف سنة 2011 بشرف
بناء جامع الجزائر، كان مشوار المشروع طويلا وقد كانت البداية الفعلية
بالاعتماد على استشارة تقنية تشرف بالقيام بها مكتب دراسات كندي سنة 2006،
وفي السنة الموالية، 2007، تم تنظيم مسابقة وطنية ودولية في الهندسة
المعمارية حول التصميم الأولي لجامع الجزائر، وهي المسابقة التي شهدت
مشاركة 17 مكتب دراسات ذات سمعة دولية، وأشرف عليها خبراء جزائريون وعرب
وأجانب اشتغلوا لفترة طويلة بهدف المفاضلة بين التصاميم، ليقع الاختيار في
النهاية على تصميم تقدم به مكتب دراسات ألماني، وهو التصميم الذي تفوق على
غيره بكونه جمع بين الأصالة والمعاصرة وتم إنجازه بطريقة تسمح بإدخال
تعديلات عليه، علما أن تصميما فرنسيا فاز بجائزة أحسن تصميم لكنه لم يُعتمد
لكون إنجازه من الناحية التقنية مستحيل.
ولأن
المشرفين على المشروع يدركون أنهم بصدد إنجاز معلم ـ والمعلم يدوم أطول
فترة ممكنة مما يفرض تشييده بأجود طرق ومواد ومعدات الإنجاز ـ فقد استعانوا
بعدد كبير جدا من الخبراء والعارفين، حيث أن هذا التصميم تم تمحيصه من طرف
أكثر من ألف خبير، ضمتهم نحو 400 ورشة استعانت بمؤرخين كبار ومختصين حرصوا
على إضفاء الطابع الحضاري الإسلامي على المشروع دون استبعاد الطابع
المغاربي ـ الجزائري الأصيل، وقد أدخل هؤلاء الخبراء والمختصون بعض
التحسينات والتعديلات على التصميم دون المساس بجوهره الذي لقي إعجابهم وحاز
إجماعهم، فهل هؤلاء الخبراء الجزائريين والعرب والأجانب جميعا جهلة
وأغبياء حتى يطلع علينا اليوم بعض المتنطعين والمتفلسفين للطعن في القيمة
الحضارية والمعمارية لجامع الجزائر؟..
عملية تجسيد الحلم بدأت.. وتنتهي في 2015
بدأ
حلم جامع الجزائر يقترب من التجسيد أكثر فأكثر، حين أعطيت يوم الثلاثاء 28
فيفري بالجزائر العاصمة إشارة الانطلاق الرسمي لإنجاز المشروع، بعد أن تم
التوقيع على عقد إنجاز وتسليم الأمر بالخدمة للشركة الصينية العمومية
لهندسة البناء العملاقة "شاينا ستايت كونستراكشن".
ومن
المقرر أن يستغرق إنجاز هذا المشروع الحضاري الكائن ببلدية المحمدية (شرق
العاصمة) 42 شهرا بتكلفة إجمالية مقدرة بمليار أورو، حيث من المنتظر أن
يسلم خلال شهر أوت من سنة 2015.
وبذلك،
قطع مشروع جامع الجزائر خطوة عملاقة نحو التشييد، بعد أن قام بالتوقيع على
عقد الإنجاز المدير العام للوكالة الوطنية لإنجاز جامع الجزائر وتسييره
السيد محمد لخضر عليوي والرئيس المدير العام للمجمع الصيني في الجزائر
السيد شان فانجيان بحضور وزير الشؤون الدينية والأوقاف السيد بوعبد الله
غلام الله والسيد محمد علي بوغازي المستشار برئاسة الجمهورية.
وتحتوي
الوثيقة الممضاة 20 مجلدا و12 ألف صفحة، وتضم 15 ألف مخططا يشتمل على
مختلف الجوانب الهندسية والهيكلية والجمالية للمشروع.. ومع ذلك كله نسمع
بعض الأصوات التي لا يعجبها أن يُبنى جامع عملاق في الجزائر تزعم أن مخطط
المشروع "سطحي"، وأنه يضم بضع صفحات، دون أن يكلف المتطاولون على المشروع
أنفسهم عناء الاتصال بالوكالة الوطنية لإنجاز الجامع وتسييره للتعرف على
مختلف جوانب المشروع الذي يستحق أن يتعاون الجزائريون جميعا لإنجاحه
وإنجازه في أفضل الظروف، بعيدا عن الحسابات الضيقة والحساسيات البائسة..
"الجامع" يتحول إلى ملجأ كبير في حالة الكوارث!
ما
لا يعرفه كثيرون أن جامع الجزائر ليس مجرد مكان للصلاة ـ ولو أن ذلك يكفيه
شرفا ـ وإنما هو معلم حضاري جامع، حيث سيكون بمثابة مركز كبير للبحث
العلمي، وفضاء سياحي، كما يمكنه أن يتحول إلى ملجأ كبير في حالة الكوارث لا
قدّر الله.
وحسب
مصدر مطلع، فإن مصممي جامع الجزائر، تنفيذا لرغبة السلطات الجزائرية،
أخذوا بعين الاعتبار إمكانية استغلال هذا الصرح لأسباب إنسانية، حين يستدعي
الأمر ذلك، حيث أنه تقرر أن يحتوي على قاعة كبيرة للإغاثة، ومواقع لإيواء
عدد كبير من اللاجئين، وأماكن لتخزين الألبسة والأفرشة والأغطية، ناهيك عن
مركز للحماية المدنية.
وتضاف
هذه الوظيفة "الإنسانية" إلى جملة من الوظائف الحيوية التي يُنتظر أن يقوم
بها جامع الجزائر بعد إتمام بنائه من طرف الشركة الصينية العملاقة "شاينا
ستايت كونستراكشن" التي تمتلك استثمارات في أكثر من 160 دولة، ورقم أعمالها
يقدر بنحو 70 مليار دولار، علما أن هذه الشركة قامت ببناء 80 بالمائة من
العمارات العملاقة في دولة الصين، ولها إنجازات ضخمة في العديد من بلدان
العالم.
وبالنظر
إلى التجربة الكبيرة للشركة الصينية المذكورة، يُنتظر أن يكون جامع
الجزائر تحفة بكل المقاييس، ومعلما يتحدى الزمن والكوارث الطبيعية وغيرها.
وبالتأكيد
لن يكون جامع الجزائر مكانا للصلاة فحسب، بل سيكون فضاء حضاريا جامعا
بالمعنى التام للكلمة، يضم، من بين ما يضمه، مكتبة ضخمة بطاقة مليون كتاب،
تتيح إمكانية كل أنواع المطالعة، التقليدية، الإلكترونية، والسمعية
البصرية، ويضم 12 قاعة كبيرة للمحاضرات بالمقاييس العالمية المتطورة، وكذا
"دارا للقرآن" بمثابة مدرسة عليا لتكوين دكاترة في العلوم الإنسانية عموما،
مع التركيز على العلوم الدينية، وتكون الدراسة في "دار القرآن" بالنظام
الداخلي، أي بتوفير الإقامة للطلبة والباحثين، بسعة تقدر بـ300 غرفة فردية،
وبذلك ستستعيد الجزائر دورها كمركز للإشعاع الديني والحضاري.
أقوى بناء مضاد للزلازل بالجزائر!
اختيار
موقع إنجاز جامع الجزائر لم يكن اعتباطيا، بل جاء من بين 14 موقعا مقترحا،
وبعد أن قدّر المشرفون على المشروع أن الموقع المختار ببلدية المحمدية، هو
الأكثر ملاءمة لتجسيده، ومن لطائف القدر أن يقام أكبر مسجد بالجزائر يُذكر
فيها اسم الله، ويسبح له فيه بالغدو والآصال "رجال لا تلهيهم تجارة ولا
بيع عن ذكر الله"، ويُصلى فيه صبحا وعشية على النبي وآله في بلدية تحمل
اسما مستمدا من اسم النبي المصطفى محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.
ويقدّم
القائمون على المشروع ثلاثة أسباب يرون أنها كانت كافية لاختيار الموقع
النهائي لإقامة جامع الجزائر، يتمثل الأول في كونه يتوسط خليج العاصمة،
والثاني في كون الأراضي به ملك للدولة، أما العامل الثالث فهو "سخاء
المساحة" التي تقدر بعشرين هكتارا، هذه المساحة بدورها كانت عاملا حاسما في
التصميم النهائي للجامع، وهي التي فرضت حجمه، سواء من ناحية السعة أو
العلو.
وردا
على بعض المتطاولين على المشروع الذين ادعوا أن جامع الجزائر مرشح للسقوط
نتيجة هزة أرضية متوسطة الشدة، قال مصدر مأذون من الوكالة الوطنية لإنجاز
وتسيير الجامع أن التقنيات المستخدمة في بنائه تستعمل لأول مرة في بلادنا،
وهي تجعل منه بناء مضادا للزلازل بامتياز، حيث أنه في حالة حصول زلزال بشدة
9 درجات على سلم ريشتر فإنه يصل لقاعة الصلاة بشدة 3 درجات!
ودون
شك، فإن الوصول إلى إنجاز جامع بهذه المقاييس لن يكون مجرد أمنية من
إطارات المشروع، بل هو نتيجة لاجتهاد مضن استمر طويلا، وتطلب جهدا كبيرا،
حيث أنه بعد أن تقرر إنجاز جامع الجزائر بالأرضية المخصصة له في بلدية
المحمدية، تم القيام بدراسات طبوغرافية معمقة للتربة استمرت على مدار شهرين
تحت إشراف خبيرين من أبرز خبراء العالم في الاختصاص، أحدهما ألماني والآخر
كندي، لتثبت الدراسات في الأخير أن التربة صحية والأرضية صالحة لإنجاز
مشروع بهذا الحجم.
ولم
تكتف الوكالة الوطنية لإنجاز الجامع بذلك، فحرصا منها على إنشاء بناء
عملاق بمقاييس عالمية متطورة، وبأحدث التقنيات المضادة للزلازل ـ أو
بالأحرى المخففة من آثارها ـ استعانت بأكبر وأشهر وأمهر الخبراء العالميين
المختصين في الأنظمة والتقنيات والبناءة المقاومة والمضادة والعازلة
للزلازل، وتم القيام بدراسة زلزالية شملت كامل مساحة الأرضية المخصصة
للجامع، كما تم تنظيم ملتقى دولي حول مواد البناء، دون إهمال البحث عن أحدث
طرق صيانة مثل هذه المواد التي يمكن أن تتأثر نوعيتها بمرور السنين، ليكون
المشروع بذلك مرجعا هاما للباحثين والدارسين والمهتمين.
الجامع بإمكانه "بيع" الكهرباء لسونالغاز!
حرص
القائمون على مشروع جامع الجزائر من إطارات على تخفيف الأعباء المالية عن
الخزينة العمومية قدر الإمكان، عكس ما يشير إليه بعض المتطاولين على
المشروع، ويكفي لإثبات ذلك أن نلقي نظرة على النظام الكهربائي لجامع
الجزائر، حيث قررت الوكالة الوطني لإنجازه وتسييره الاستعانة بالغاز لإنتاج
الكهرباء، وبالطاقتين الشمسية والهوائية لتوليده، وهو ما سمح باقتصاد
التكلفة بشكل كبير، مع العمل على ضمان تمويل طاقوي ذاتي للجامع، حيث تقرر
أن يتم تقسيم المعلم، من الناحية الكهربائية، إلى مجموعة من المراكز، لكل
مركز موّلده الخاص، وبالنظر إلى تفاوت حجم استهلاك الكهرباء زمنيا، فسيكون
جامع الجزائر مؤهلا في بعض الفترات لإنتاج فائض من التيار الكهربائي، وهو
الفائض الذي ستقوم الوكالة ببيعه إلى مؤسسة سونالغاز وفق اتفاق بين
الطرفين.