-->
أخبار الجزائر والعالم أخبار الجزائر والعالم

قصة حياة.. مذكرات الشيخ محمد الغزالي


مذكرات محمد الغزالي

تقديم: محمد جلال لاشين

"قصة حياة " للشيخ محمد الغزالي.. هو كتاب ذاع اسمه ولم يُعرف له أثر، اشتهر بين الباحثين والمثقفين ولم يحظى باهتمام الناشرين، إلا ماكان من المعهد العالمى للفكر الإسلامي من جهد في نشره بمجلة ( إسلامية المعرفة ) العدد 7 للسنة الثانية، بعنوان " قصة حياة.. مقتطفات من مذكرات الشيخ محمد الغزالي " (1)، لعل هذه المقتطفات هي مسودة الكتاب المذكور الذى شرع الشيخ في كتابته، ثم شغلته هموم أمته وأولويات الوقت عن إتمامه، فدفع بما أنجز منه إلى المعهد العالمى لينشره ريثما تزول الصوارف وتنتهي الشواغل، ولم يزل مشغولا حتى عاجله القدر بماحال دون إكماله، وربما لو طال به العمر لجعل منه سفرا حافلا بالرواية المميزة، والنظرة التحليلية الثاقبة، وكان شهادة هامة على أحداث تاريخية عظيمة الخطر مرت بأمتنا..
جاءت عناوين الكتاب في سبعة وثلاثين عنصرا هي:
1- ذكريات طفولة 2- حياة الكُتَّاب 3- التعليم الابتدائي 4- تعليم ديني ومدني 5- اضطرابات سياسية 6- عقبات 7- في المرحلة الثانوية 8- تساؤل 9- حادث طريف 10- دراسة الإسلام في أوربا 11- الدراسة الأزهرية القديمة 12- صلتنا بالمدرسين 13- رسالة من المرشد 14- طبائع بيئات 15- طلب مرفوض 16- بعض صفاتي 17- عذر مقبول 18- دعوة مستجابة 19- حول منهج الدراسة 20- البحث عن وظيفة...؟ 21- اكتشاف مهم 22- قصة مضحكة 23- زواج سعيد 24- ونهاية! 25- حال المسلمين يومئذ 26- محاولة فاشلة 27- الديمقراطية 28- الأنظمة العالمية 29- راحة الكادح الصبور 30- واعظ إخوانى 31 - الانتفاع بالحريات الديمقراطية 32- الأحوال السياسية وجماعة الإخوان المسلمين 33- نقاش حول الدساتير 34- انقلاب على الأوقاف 35- منهجي في الدعوة 36- مع الاتحاد الاشتراكي 37- مع أنور السادات
سنحاول نشر هذه العناوين السبعة والثلاثين، تقديرا لقيمتها، ووفاءً لصاحبها ، وقياما ببعض حقه علينا.. رحم الله الشيخ الأديب، ورفع ذكره في العالمين، وسلام عليه في الخالدين.

--ذكريات طفولة --
لا يُسأل أحدنا لِمَ في زمان كذا، أو في مكان كذا؟ فهذا قدر سابق لا خيرة لنا فيه وإنما لفت نظري أني برزت إلى الدنيا في كبوة من تاريخ الإسلام، وأيام كئيبة كان الإنجليز فيها يحتلون مصر، كما احتلوا أقطاراً فيحاء من أرض الإسلام الجريح!!
ومع الهزائم المرَّة التي أحرجت الآباء والأولاد، فإن المقاومة الشعبية كانت عامة. ورَفْض الاستسلام للغاصب الكفور كان يعمّ الأرجاء.
وأذكر أن قريتي الصغيرة "تكلا العنب -محافظة البحيرة" شاركت في الثورة العامة ضد الإنجليز، وقطعت أسلاك الهاتف وأعلنت التمرّد!
وجاءت فرقة من جيش الاحتلال وعسكرت أمام أحد المساجد واستخفي الناس في البيوت، وقتل أحد الفلاحين الذين لم يلتزموا بتعليمات منع التجول...
وقد علق بذاكرتي ما حدث في ذلك اليوم، وكانت أمي تحملني على ذراعها ونحن ننظر إلى الجيش الزاحف –من فوق سطح بعيد- أظنني يومئذ في الثالثة من عمري، فقد ولدت ف ي22 سبتمبر 1917، وكانت هذه الثورة سنة 1920 للميلاد!
هل يعني ذلك السَّرد أن ذاكرتي حسنة؟ إنني أبادر بالنفي! فإنني قد أنسى ما عرفته منذ دقائق، وفي الوقت نفسه أذكر أموراً مرّت عليها عشرات السنين...
سألني مدرس النحو وأنا طالب في المرحلة الابتدائية: أعرب يا ولد "رأيت الله أكبر كل شيء"، فقلت على عجل: رأيت فعل وفاعل، والله منصوب على التعظيم!
وحدثت ضجة من الطلبة، ونظرت مذعوراً إلى الأستاذ، فرأيت عينيه تذرفان!!
كان الرجل من القلوب الخاشعة، وقد هزّه أني التزمت الاحترام مع لفظ الجلالة - كما علموني - فلم أقل إنه مفعول أول، ودمعت عيناه تأدُّباً مع الله!
كان ذلك من ستين سنة أو يزيد... رحمه الله وأجزل مثوبته!
إن هناك أشياء تفرض نفسها على ذاكرتي، ولو اختلف الليل والنهار، وأخرى تقرع الباب فلا يؤذن لها فتمر كأن لم تكن...
والقرن الذي ولدتُ فيه من أسوأ القرون التي مرّت بديننا الحنيف! لم أبلغ سبع سنين حتى كان المرتدّ التركي مصطفى كمال قد رمى "بالخلافة الإسلامية" في البحر! نعم كانت شبحاً لا روح له، بيد أن هذا الشبح كان مفزعاً لأعداء الإسلام، وإذا كان مُغمى عليه تحت هوِيّ المطارق على أم رأسه، فمن يدري؟ قد يستيقظ فجأة ويستأنف نشاطه المخوف، فموته أجدى على أعداء الإسلام...
وعندما كبرت وقرأت لم أشعر بالخزي لهذا الظروف التي اكتنفت ميلادي!
لقد رأيت ابن تيمية يولد وينمو في ظروف مشابهة، فقد برز إلى الحياة مع سقوط الخلافة العباسية، وكانت أمواج الغزو التتاري تتدافع بعنف، وترغمه هو وأسرته على الفرار من بلد إلى بلد، والسير في طريق مليئة بصرعى الفتك والضياع والهزائم المتتابعة.
إن الشعوب الإسلامية تجني المصائب من تفريط الحكام وإضاعتهم لأمانات الله التي طوّقت أعناقهم، ما ذنبنا نحن الأطفال، وما ذنب آبائنا الذين يحبون الإسلام ويفتدونه بالنفس والنفيس؟
أشهد أن أبي رحمه الله، كان عابداً قوّاماً ومكافحاً جلداً، وقد سماني محمد الغزالي لأن أبا حامد رضي الله عنه أوصاه بذلك في رؤيا صالحة رآها وهو أعزب...
وعندما ولدت شرع يهتمُّ بي، فما بلغت الخامسة حتى كنت في الكُتّاب، أحفظ القرآن مع غيري من الصبية، ولما كان هو من الحفاظ، فقد تعاون مع فقهاء الكتاب على ألا أضيع سدى، يجب أن أستظهر القرآن الكريم في أقصر مدة!

--حياة الكتّاب --
لم أكن بليداً ولا نابغاً، كنت متوسط الذكاء، ضئيل الجسم، قصير القامةَ وكان وقع العصا على جلدي رهيباً عندما أخطئ، وربما أكرهتني الهيبة على التلعثم، فإذا ارتفعت العصا أسرعتُ إلى استعادة وَعْيي وتابعت القراءة، بعدما انتهوا من مرحلة الكتابة.
وعلى بعد مائة ذراع تسمع هدير التلاوة، تقطعه بين الحين والحين استغاثة مضروب لم يحسن الأداء، يتوجع من لذع العصا...
والآباء يوصون المعلمين بألا تأخذهم شفقة في التعليم والتأديب، فعصى الفقيه من الجنة كما يقولون...!
سألت نفسي بعدما كبرت سني عن جدوى هذه الطريقة، ولم أنته إلى إجابة حاسمة‍!
هناك من رفضها بحجة أن شحن أذهان الأولاد غير مفهومة يعطل نموهم العقلي...!
ولكني رأيت هؤلاء يشحنون عقول الأطفال بخيالات مجنونة لا أصل لها ولا جدوى منها، عن طريق الحكايات الخرافية المصورة في "التلفاز" أو المروية بوسائل الإعلام الأخرى.
قلت: لأن أملأ الذاكرة بشيء أستفيد منه في المستقبل خير من ملء الدماغ بأوهام الصور المتحركة، والأقاصيص السخيفة...
ومع هذا الرد فإن الاعتراض بقي قائما، هل يستفيد القرآن نفسه من هذه الأشرطة التي استوعبت ألفاظه، وحفظت آياته في الصدور؟ حفظاً لا تدبّر معه ولا فقه فيه؟
ربما قيل: بقي القرآن متواتراَ على حين ضاعت كتب سماوية أخرى!
وذلك حق! فإن ضمانات الخلود توفرت لهذا القرآن العظيم فما ضاع منه حرف، غير أن ذلك لا يقصد لذاته، فبقاء المبنى إنما هو من أجل حياة المعنى، وازدهاره، والعمل به، وإقامة حضارة على دعائمه، والإمساك بالألفاظ لا يحقق هذه الغايات العظام...
إن نظام الكُتّاب قد تلاشى تقريبا، وحلّت محلّه مدارس للقرآن فيها وجود يشبه العدم! وتكاد التربية الإسلامية والعربية عندنا تجف ينابيعها...!
ووَدِدْتُ لو انعقدت مؤتمرات دائمة لاستبقاء محاسن الكُتّاب واستبعاد مساوئه ووضع سياسة جديدة لربط الأجيال الناشئة بأصولها وقيمها...
بقيتُ في الكُتّاب إلى سنِّ العاشرة، فأتمَمْتُ حفظ الكتاب العزيز، وعرفت مبادئ الحساب، وشيئاً قليلاً من قواعد الإملاء، ورأى أبي أن يقدم على مرحلة تُعَدُّ عصبية بالنسبة له، لكنها مهمة بالنسبة لي!

--التعليم الابتدائي --
يجب أن يلحقني بالمعهد الأزهري المخصص في هذا العصر لمحافظة البحيرة، وكان ذلك المعهد في مدينة الإسكندرية...
وطفل في العاشرة من عمره لا يقدر أن يعيش وحده، لا بد إذن أن تنتقل الأسرة معه، فباع دكانه الذي يرتزق منه، واشترى في الإسكندرية مكتبة بحيّ "كرموز" كانت تبيع الأوراق والكراريس، والروايات المترجمة، والكتب المدرسية والعلمية، والقصص الشعبية، والأسفار الدينية المختلفة.
ونقل الأسرة التي أصبحت تضم معي شخصين آخرين غير من ماتوا واستقبل مرحلة شاقة من مراحل السعي واللغوب!
لم أكن يومئذ مغارم هذا التحول من القرية الهادئة إلى المدينة المائجة، ويظهر أن أبي واجه أزمات وضوائق فلم ينهزم، وخفّف عنه آلام الحياة أني نجحت في امتحان القبول، الذي عقدته مشيخة معهد الإسكندرية الديني، وكان الناجحون نحو مائتي طالب، كُلّفوا بارتداء العمامة والجبَّة المقررة.
ويظهر أن منظري وأنا في هذه السن الصغيرة كان مثيراً للضحك! مما جعلني أتنكر لهذا الزي المفروض أمداً طويلاً...
أصبحت الشيخ محمد وأنا لم أبلغ الحلم! كنت أحب اللعب ولكن كيف يلعب شيخ؟ وكنت كثير الضحك وجزائي على ذلك طول الزجر والتوبيخ...
وتطلعت إلى المكتبة التي نرتزق منها وكنت منهوماً بالقراءة، فتركني أبي أقرأ، وإن كان قد لاحظ في أسف أني آبى القراءة في الكتب الدينية، وأوثر مطالعة الرِّوايات الأجنبية، وربما فضلت قراءة ألف ليلة على ما يختار لي هو من كتب...
عرفت بعد ما كبرت أن هذه الكتب مليئة بالأحاديث الموضوعة والواهية والخرافات العلمية، ولكن الناس كانوا مقبلين عليها، مثل: دقائق الأخبار في ذكر الجنة والنار، والروض الفائق في الوعظ والرقائق، وتنبيه الغافلين، وقصص الأنبياء، والخمرة الإلهية، والفتوحات المكية...إلخ.
لقد كانت الثقافة الإسلامية –وما زالت- حافلة بالسموم والمخدرات، والحاجة ماسة إلى غربلتها ونفي الأقذاء عنها.
دخلت المرحلة الابتدائية من التعليم الأزهري مع بدايات الحادية عشر من عمري، وكان ذلك عام 1928 للميلاد، وأشعر الآن أن العقد الأول من حياتي تضمن خيراً كثيراً، يكفي أني حفظت فيه القرآن، وتهيأت لدراسة يصبو إليها الكثيرون.
وكان بطل هذه المرحلة أباً وهب ابنه لله على حدِّ التعبير الشائع! وباع ما يملك ليصلني بدراسة تخدم الإسلام، وكان الأزهر يومئذ حصن الدين واللغة، بل كان موقفه من الاحتلال الإنجليزي صورة لموقفه من الاحتلال الفرنسوي، كان قذى في عيون المستعمرين وكهفا للأحرار والمجاهدين.

--تعليم ديني ومدني --
دخلت معهد الإسكندرية الديني لأقضي فيه تسع سنين من أغلى أيام العمر، كانت الدراسة وفق نظام اليوم الكامل تبدأ صباحاً وتنتهي في الأصيل، وهي دراسة حسنة لا يجوز وصفها بأنها دينية خالصة، فإن العلوم المدنية كانت لها أنصبة محترمة، ولم يكن مستوانا فيها دون مستوى أندادنا من طلاب التعليم العام، إلا في اللغات الأجنبية فقد حرمنا منها، وكنا نستطيع - لو قررت علينا - أن ننجح فيها...
والمنهج الذي ارتبطنا به كان من وضع الشيخ محمد مصطفى المراغي، وهو من مدرسة الشيخ محمد عبده الإصلاحية، ولذلك لم يبق طويلاً حتى عصف القصر الملكي به، وأتى بالشيخ الأحمدي الظواهري.
وقد نفذ الشيخ الجديد برنامج سلفه بدقة، وأعتقد أن هذه الفترة من أزهي فترات التألق العلمي في الأزهر، لأن دراسة الطبيعة والكيمياء والأحياء وعلوم الحساب والجبر والهندسة، والتوسع في دراسة التاريخ المحلي والإسلامي والعالمي، ودراسة جغرافية العالم كله... إن هذا كله يصقل فكر الطالب ويعينه على تكوين حكم صائب، بل إن الحقائق الشرعية لا تفهم على واقعها الصحيح إلا بهذه المعرفة...
وقد رأيت ناساً من المشتغلين بالدين وعلومه، قرؤوا بعض المتون والمؤلفات القديمة، ثم أخذوا باسم الإسلام يُكذبّون غزو الفضاء والوصول إلى القمر، بل يكذبون كروية الأرض ودورانها، ولهم في هذا تبجح منكر!
ذلك مبلغهم من العلم!
وكانت الدراسة في معهدنا نصف داخلية، أُعِدَّت غرف فسيحة للنوم، ويُصرَف للطالب نحو ثلاثين قرشاً في الشهر يستعين بها على طعامه اليومي. وقد نفعني هذا أكبر النفع، عندما اضطربت أحوال أبي الاقتصادية، وقارب الإفلاس، واضطر بعد أربع سنين أن يعود إلى القرية من حيث جاء...
وثلاثون قرشاً ليست يوم ذاك شيئاً تافها، فإن القرش الواحد كان يشتري عشر بيضات تساوي في عصرنا الآن مائة وخمسين قرشاً...
وهذا الإنفاق كان من أوقاف المسلمين!
لقد عرفت سرّ حرص الاستعمار على إلغاء الوقف الخيري، وترك جهات البر لا مورد لها، ولأدع هذا الحديث الآن إلى وصف حياتي في المعهد...
إنني منذ نعومة أظافري أهتم بالأحوال العامة، وأكترث للمبادئ التي يعتمد عليها الحكم، وأتعشق الحرية والعزة، وأكاد أذوب إذا تورَّطت فيما يعاب، وأصادق بإخلاص، وأعادي الخصوم بنـزاهة، وأتطلع إلى الصدارة وأبذل ثمنها بطيب نفس!

--اضطرابات سياسية --
ولما كنت يافعاً تولّى إسماعيل صدقي باشا الحكم، فألغى الدستور القائم، وجاء بدستور آخر، وقبل ذلك كان محمد محمود باشا قد عطل الدستور مؤقتاً ومهّد للضربة القادمة...
وكانت الأمة كلها ضد هذه التصرفات، وترى أن القصر وأحزابه يعملون لمصلحة إنجلترا ضد جمهرة الشعب المصري، وكان الطلاب المصريون يقودون حركة تمرُّد لا آخر لها... فلم يكن عجباً أن يشارك معهدنا في هذه الثورات، ولم يكن مستغرباً أن أكون بين قادتها.
وقد دفعت ثمن ذلك غاليا، قٌدّتُ إحدى المظاهرات العنيفة، وحُقّق معي ثم أفرجت النيابة عني بكفالة مالية قدرها جنيهان، دفعها أبي وهو يلهث من الإعياء. ومضت القضية في طريقها العتيد، وما كنت أدري ما يفعل بي لولا أن قانوناً بالعفو العام شملها فيما شمل من أمثالها، ونجوت من السجن.
وقُدت أخرى داخل المعهد، وبعد التحقيق رُئي فصلي سنة من الدراسة، أو بعبارة أخرى رئي منعي من دخول امتحان آخر العام، وكنت في السنة الثانية الثانوية، فعزَّ عليَّ أن أتخلف سنة عن زملائي فتركت الدراسة نهائياً وانفصلت من المعهد، وقلت: أتقدم لامتحان "الشهادة الثانوية –القسم الأول" من الخارج.
وكانت مغامرة لا يقدم عليها أحد! ورأيت أبي –رحمه الله- يكاد يقتله الحزن لخيبة أمله في مستقبلي، وفي الرؤيا التي سيطرت عليه.

--عقبات --
غير أن علّة فادحة دهمتني سقطت بعدها طريح الفراش ثلاثة شهور، وانفتحت في جسدي عدة خرّاجات قاتلة، وكنت خلال هذه الشهور في عالم آخر، واتجهت الظنون إلى أني مائت لا محالة، وترقب أهل القرية بين الحين والحين نعيي! وعلمت بعد ما دخلت في مرحلة الشفاء أن تموين البيت كله بيع في تمريضي! وأن الأب الجلد المؤمن لم يدخر وسعاً في علاجي لأصح، ماذا أفعل؟ نهضت من هذا المرض جلداً على عظم، وأرسلت لأصدقائي في المعهد أن يبعثوا إلي بالكراسات التي يكتبون فيها مسائل الرياضة، وبعض الكتب المقررة، وكانوا عند حسن الظن، فأنجدوني بما يعينني على المذاكرة...
كان علي أن أستعد للامتحان في نحو عشرين علما، هي المقررات الرسمية للسنوات الأولى والثانية والثالثة الثانوية، وذلك وفق ما يقضي به قانون الذين يُمتحنون من منازلهم!
كان زملائي يحضرون في معمل الطبيعة والكيمياء، وكانوا يسمعون المدرس وهو يشرح الجبر والحساب والهندسة، أما أنا فكنت ممدداً على عيدان الذرة الجافة فوق سطح دارنا، أقرأ وأعاني وأستعين بالله!
إن حالتي في المعهد كانت عادية، كنت سباقاً في علوم اللغة والأدب فقط، أما في الفقه والتفسير وغيرهما فقد كان نفوري شديداً من كتب نور الإيضاح، ومتن القدوري، ومجمع الأنهر على ملتقى الأبحر، التي كانت تقدم لنا الفقه الحنفي، كما كنت ضائقاً بتفسير النسفي وأبي السعود وغيرهما...
لا بد مما ليس منه بد! وبعد عام من فصلي ذهبت مرة أخرى إلى المعهد متقدماً من الخارج في امتحان صعب، وكان زملائي يرثون لحالي، ولكنهم لا يحبون أن يجرحوا كبريائي، فيسكتون مشفقين...
لا أدري كيف أديت الامتحان بهدوء! وكرهت أن أعود إلى أبي أنتظر النتيجة في جواره! وعشت في مساكن المعهد حتى تم إعلان النتيجة، وكانت المفاجأة: نجحت في هذا الامتحان الصعب، بل كنت من الأوائل في القطر كله والأول في معهد الإسكندرية...
وأحسست داخل نفسي أن هذه ليست مهارتي، بل كانت دعوات أبي المؤمن المتوكل الصبور!

--في المرحلة الثانوية --
واستأنفت الدراسة مع زملائي ملتحقاً بالسنة الرابعة، فلم يضع من عمري ما كان مفروضاً أن يضيع، وعندما راجعت نفسي لم أكن أشعر بأني أخطأت. لقد أديت واجبي، وانسقت مع عاطفة شريفة، إنني كنت أحارب الاستبداد، وأخدم أمتي وبلادي! بيد أن ذلك الشعور كان يصحبه شعور آخر بالألم الفادح الذي نالني ونال أسرتي معي، وانضم إلى ذلك إدراك بأني كنت غارقاً حتماً لولا القد الذي حنا علينا وانتشلني من اللجَّة!
نعم لقد مرت بي لحظات استوحشت فيه من كل شيء، واستبان لي عجز الخلائق أجمعين، ولم يأخذ بيدي إلا الواحد القهار.
وازدادت أزمات أبي، فأخذت أدَرِّس لبعض الأطفال نظير أجر تافه، وأحتال على البقاء في المعهد بما أتكسبه من قريشات قليلة... حتى أحرزت الشهادة الثانوية الأخيرة.
إن هذه الشهادة كانت تمثل آخر تطبيق للنظام الإصلاحي الذي وضعه رجل تتلمذ على الشيخ محمد عبده، وكانت فرقتنا آخر من حصل على هذا النوع من الشهادات، وعُدّلت البرامج بعد ذلك تعديلاً حذف كثيراً من المواد الرياضية والعلمية والإنسانية العظيمة النفق.
وكنا نتحدث فيما بيننا أن الشيخ المراغي سئم تكاليف الجهاد العلمي وآثر الراحة بالتعاون مع الأحزاب المتعاونة مع القصر، وترك الأزهر حبله على غاربه، فأخذ التعليم الديني ينحدر رويداً رويداً...
لقد استفدت كثيراً من دراستي في المعهد بين عامي (1928،1937) وأذكر أن المشرفين على الإدارة حاربوا الأمراض المتواطنة الفاشية في أجسامنا، فبعد أن أظهر الكشف الطبي أنني مصاب بالبلهارسيا، تعهدني المسؤولون بالعلاج أربع سنين معاقبة، أخذت خلالها نحو خمسين حقنة حتى انقطع دابر المرض، وكنت قبلها أحسب أن أبناء آدم يبولون دماً آخر ما يقضون حاجاتهم...

--تساؤل --
وقد أصبنا مقادير جيدة من علوم اللغة والدين.
ولا أدري لماذا كل هذا الحرص على الكتب القديمة؟ إن مؤلفي النحو قديماً كانوا مشغولين بالاستدلال على قواعدهم من شواهد الشعر والنثر والقرآن الكريم، كانت القضية تذكر ثم يساق البرهان بعدها...
لقد ثبتت هذه القضايا واستقرت، وبقي أن تدخل مرحلة التطبيق في كل نواحي الحياة... فإذا كان من الضروري أن يدرس هذا العهد ففي مرحلة التخصص.
أما قبل ذلك فكان يجب أن تدرس كتب النحو والبلاغة على الطريقة التي قدمها الأديب الشاعر علي الجارم في مؤلفاته القيمة.
ولعل ذلك يراعى في تعليم اللغة مستقبلاً، إن لغتنا تتعرض لإهمال شديد لعله مقصود!
وفقه دورة المياه الذي يُدرَّسُ للناس كافة وكأنهم يعيشون في صحراء الجزيرة! إن تغييراً واسعاً طرأ على المجتمع البشري ينبغي أن يلاحظ عند درس الأحكام الفقهية، لا في النظافة وحدها بل في معاملات شتى...
كنا نحس ذلك ونحن طلاب في تلك المرحلة، مرحلة الشباب المتطلع الناشط الدؤوب...
وفي السنة الأخيرة من مقامي بالإسكندرية التقيت بالأستاذ الإمام حسن البنا، كنت جالساً في مسجد عبد الرحمن بن هرمز بحي رأس التين أقرأ وردي القرآني، وانتظرت لأصلي المغرب وأخرج، فإذا رجل يقوم بعد الصلاة يلقي درساً جامعاً يتسم بالوضوح والتأثير والصدق.
قررت من يومها أن أتبعه، وأن أسير معه على درب واحد لخدمة الإسلام والمسلمين...
التحقت بكلية أصول الدين من كليات جامع الأزهر، وبدأت الدراسة عام 1938، ونظرت إلى زملائي القادمين من معهد الإسكندرية فوجدت جُلّهم من النابهين ذوي المواهب الحسنة، لكن عددهم قليل! لقد كنّا عندما التحقنا بالمعهد قريباً من مائتين، فلما دخلنا امتحان الثانوية العامة كنا نحو السبعين طالبا... توزعتنا الكليات الأزهرية الثلاث: اللغة العربية، والشريعة الإسلامية، وأصول الدين، والتحق آخرون بدار العلوم.
وتخلف عدد كبير في قراهم لم يستكملوا دراستهم لأسباب كثيرة. وجدير بالذكر أن هؤلاء الذين لم تصل بهم حظوظهم إلى نهاية التعليم الأزهري كانوا يحيون في القرى شبه شيوخ، وكانوا يدرسون للناس علوم الفقه والحديث والتفسير، ويربطون سواد الأمة بدينها وتراثها...!
ولا بد أن الاستعمار العالمي يدرك خطورة هذا التعليم الديني الشعبي ودوره الممتد في بقاء الروح الإسلامية، ومن ثم فهو يكره بقاءه ويبيّت له أسوأ التدبير!...
وبدأنا نحن نواجه هذه المرحلة من حياتنا العلمية، مع زملائنا القادمين من مدائن القطر كله.

--حادث طريف --
وجمعنا عميد الكلية في مسجد "الخازندارة" في حفل عام للتعارف واستقبال العام الجديد، وتوثيق العرى بين الطلاب وهيئة التدريس، وحدث في هذا الحفل أمر ذو بال، فقد كان من بين من تحدثوا الأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى أستاذ الفلسفة والأخلاق بالكلية، وجرى على لسانه ثناء حار على المجتمع الفرنسي، وتنويه بما يسوده من أمانة ونظام، وأهاب بنا أن نتمسك بهذه الخلال!.
وغاظني ما سمعت، فانتفضت قائماً أصيح: أي خلال يا أستاذ؟ هؤلاء تقدموا في اللصوصية، اللص عندنا يسرق آنية من بيت، أو حافظة من جيب، أو ثمرة من حقل، وهؤلاء يسرقون الشعوب تحت الشمس، ويختلسون العقائد من القول! أي خلال تعني يا أستاذ نلتمسها من هؤلاء المعتدين عل إخواننا في أقطار المغرب –وكانت كلها محتلة-؟ ولماذا لم تذكرنا بسلفنا العظيم؟
وانطلقت بطريقة همجية اضطرب بها نظام الحفل، ثم أمسك بي بعض المشرفين وقادوني إلى عميد الكلية الشيخ عبد المجيد اللبان فرأى شاباً في العشرين أفقده الحماس وعيه، فقال لي بصوت وديع: أقعد يا ولد! فجلست أمامه، وكلف شيخاً آخر بالتحدث إلى الطلاب الذين بدا أنهم متعاطفون معي، بل بدا أن أكثر المدرسين لم يستريحوا إلى توجيه الدكتور محمد يوسف، وأنهم يؤيدون موقفي...!
لم يعاقبني عميد الكلية مكتفياً بإسداء بعض النصائح، وصرفني بعد انتهاء الحفل...
والغريب أن علاقتي بالأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى توطدت، وكنت فيما بعد أثيراً عنده، وطيلة مدة الدراسة بالكلية لم أستغن عن توجيهه وإرشاده، وبعد التخرج نمت بيننا صداقة عميقة وتعاون في خدمة الدعوة الإسلامية...

--دراسة الإسلام في أوربا --
والواقع أن هناك شيوخاً أخذوا الدكتوراه من جامعات أوربة بجدارة، وعادوا إلى بلادهم يخدمون دينهم بقوة، ويسعينون بالمزيد الذي نالوه على تحسين مواقف الأزهريين في مجال الكفاح العلمي.
وهناك شيوخ ذهبوا إلى أوربا لا يردّون يد لامس! أخذوا شهادات مزوَّرة في النحو واللغة والفقه والتاريخ! وعادوا بعدما فقدوا حصيلتهم الأولى. ويخيّل إلي أن رسائل كتبت لهم لا يدرون هم خباياها! وقد ناقشت بعضهم في شيء مما كتب -لأنه ضد الإسلام- فاستغربه، وفوجئ به، فأدركت أنه حمل الدكتوراه سفاحا...! ومن المحزن أن نفراً من هؤلاء قاد الأزهر في تاريخه الأخير...

--الدراسة الأزهرية القديمة --
لنعد إلى كليتنا التي التحقنا بها. إن المناهج الموضوعة تكفي وتشفي، ولو وجدت الأستاذ الكفء لخرَّجت دعاة ومدرسين من طراز رفيع... إن الطريقة التي تعلمنا بها تفتق الأذهان، وتحرّر المراد، وتضبط المفاهيم...
ومع أن المذاهب الفقهية الثلاثة كانت منتشرة بين الطلاب والمدرسين بنسب متقاربة، إلا أن ذلك لم يكن له أي أثر في تحزُّب أو انقسام، بل كانت الدُّعابة أحياناً تصبغ البحوث العلمية.
كذلك عرضُ تفكير السلف والخلف في الأسماء والصفات! كان يتم بحياد ورحابة صدر! وتضمنت مناهج الكلية إلى جانب العلوم التقليدية دراسة موسعة للفلسفة في شتى العصور، وتوسعاً آخر في علم النفس والأخلاق... إلخ.
وأرى أن علماء المسلمين يجب أن يتبحروا في هذه المعارف كلها، وأن تكون لديهم قدرة نفسية على فهم المتناقضات، والإحاطة بأبعادها، فيفهم أحدهم الشيوعية بنفس القدرة الذهنية التي يفهم بها الصوفية، بنفس القدرة التي يفهم بها حقائق الدين...
ومع رحابة الفكر تكون رحابة الصدر، وإدراك وجهات النظر الأخرى، بغير تضخيم ولا تهوين، وينتهي الأمر عندئذ بألا يثور المرء إلا لشؤون ذات بال من الأمهات والأصول.
إن نسيان هذه الحقيقة أحدث فتوقاً جساماً في تاريخنا العلمي...!
لقد رأيت المراسيم السلطانية التي صدرت ضد ابن تيمية، فوجدتها تأمر بحبسه مرتين:
الأولى: لفتواه بأن الطلاق الثلاث بلفظ واحد، يقع واحداً.
والأخرى: لأنه كره زيارة قبر النبي، للتبرك، ولما يذكر العامة أحياناً من طلب استشفاع وتضرُّع إلى الله.
وما كان الأمر ليتطلب الحبس في الأولى ولا في الآخرة، إذ الخطأ والصواب هنا في أمور فرعية، ليس السجن هو الذي يبتّ فيها...
والتهويل في هذه القضايا صرف للجماهير عن الفساد السياسي، وشغلهم بما يربح الحاكمين!
ولا زلت أرى أن فقه الفروع لا ينبغي أن يقسم الأمة شيعاً، ولا أن يصرفها عن أركان الإسلام الاجتماعية والاقتصادية، بله الأركان الأخرى...
ومن ثم فقد أعجبتني الدراسة في الأزهر -قبل أن يطيح-، وقلت: لو مضى هذا التيار إلى مداه فسيكسب المسلمون الكثير...

--صلتنا بالمدرسين --
وكان يدرس في الكلية عدد من الرجال الراسخين أمثال الشيخ محمد أبي زهرة، والدكتور محمد أحمد الغمراوي، والشيخ أمين الخولي، والدكتور عبد الوهاب عزَّام، والأستاذ عبد الوهاب خلاف، والشيخ محمد الخضر حسني، الدكتور محمد البهي، والدكتور محمد عبد الله ماضي، والعلامة الدكتور محمد عبد الله دراز، والدكتور محمد يوسف موسى، والشيخ المجاهد الغيور محمد الأودن... وآخرون.
إلا أننا لاحظنا آسفين أن مستقبلنا في مهابّ الرياح، وأن الخرّيجين يلقون مصيرهم في الشوارع، وأن الذين يدرسون لنا لا يكترثون لمصيرنا، وأن الأزهر كله يواجه أياماً عصيبة...
وأخذ عدد من أصحاب الأسماء اللاّمعة يختفي، وعكف الباقون من الشيوخ -وهم عشرات- يؤدون المحاصرات التي كُلّفوا به وينصرفون إلى بيوتهم على عجل...
وأحسسنا أنه ليس لنا آباء يحنون علينا أو يهتمون بقضايانا، وأن علينا أن نمهد لمستقبلنا بأنفسنا وإلا ضعنا.
والحق أننا كرهنا شيوخنا على اختلاف مناصبهم الإدارية. كان الدكتور طه حسن في كلية الآداب يدعو طلبته إلى حفل شاي ويسمر معهم، ويظل مع الخريج حتى يعرف أين استقر به المقام، أما نحن فالعلاقة بيننا وبين شيوخنا رسمية.
ولهذه الجفوة جُذورٌ قديمة، فهل تعجب إذا علمت أن الطلاب ذهبوا مُحنَقين إلى مكتب الشيخ الأحمدي الظواهري شيخ الجامع الأزهر، فحطّموه بالعصي وأحسبهم لو وجدوا الشيخ لتركوه كومة عظام...
ثم جاء الشيخ المراغي وارتبطت بعودته آمال عراض سرعان ما تبخرت! ولم يكن خيراً من سابقه!
إن علماء الدين الذين يحصرون واجبهم في كلمات تؤدي بقصور أو وفاء، ثم يقبعون في بيوتهم بعد ذلك، لا ينصرون حقاً ولا ينشئون جيلاً...
وقد رأيت شيوخ طرق يغرسون الخرافة ويحرسونها حتى تنمو، وعُدَّتهم في ذلك قدر من البِشرِ والحفاوة والكرم، أمّا من لديهم فقه صحيح فقد أضاعوه بالجلافة والكزازة والجبن عن لقاء الناس.
وعلى أية حال فقد مضينا في تلقي الدروس واجتياز الامتحانات، غير أن الأحوال السياسية في مصر يومئذ كانت تموج موجاً، فالصراع شديد بين القصر الملكي والأحزاب التي تؤيده من جهة والوفد المصري الذي يمثل الكثرة الكاثرة من الجماهير، من جهة أخرى.
وظهر تيار آخر لم يكترث به المسؤولون أول الأمر هو تيار الأخوان المسلمين. لقد بدأ هين الشأن، لا يثير قلقا، ولا يخيف أحدا، ثم تضاعف مائة مرة خلال بضع سنين لسببين:
أولهما: الطبيعة الدينية للشعب المصري وحنينه المثالي للإسلام، وإلقاؤه مقاليده كلها لمن يثق في صلاحه وتقواه...
الثاني: عبقرية حسن البنا الذي أوتي موهبة في البيان والشرح والتجميع والتنسيق جعلته ينفذ إلى غرضه من خلال أصعب العوائق...
وأعانه على ذلك أن الغزو الثقافي كان قد كشف عن مقاصده، فأدركت الجماهير أنه ستخسر دينها ودنياها إذا بقيت مستكينة له، وماذا بعد أن يُنقَذَ القرآن الكرم في كلية الآداب بالقاهرة، ويهان الرسول الكريم في تمثيلية تعرض بدار الأوبرا؟...
كان مستحيلاً أن تبقى كليتنا بعيدة عن هذه الأحوال...
كان سهلاً إنشاء شعبة لجماعة الإخوان المسلمين بكليتنا، وقد انتظمت من عناصر قوية اليقين، زاكية الخلق، راغبة في نصرة الإسلام وإعلاء رايته، وكنت الرجل الثالث تقريباً في هذا التشكيل، غير أني كنت أتردد على المركز العام يومياً تقريباً، لما كان في "العتبة الخضراء"، ثم لما انتقل إلى "الحلمية الجديدة".
ولم يخف على فضيلة المرشد العام هذا الدأب الذي يُمدّه روح ناشط؛ والحق أن عددا من الزملاء في كلية أصول الدين برزوا في ميدان الدعوة، وكانوا أنجح مني في ميدان الخطابة والتأثير العام...
وقد أحسن المركز العام استغلال هذه الطاقات الشابة النقية، فنظم لها رحلات في الأقاليم، وهيأ لها ميادين العمل في مختلف الشُّعب والمساجد...

--رسالة من المرشد --
وبدأ العمل المستمر ينمّي ملكانا، ويَصقُل معادننا، وفي أثناء الدراسة وقع لي مع الأستاذ المرشد شيء ساٌّر، كان له وقع عظيم في حياتي...
كتبت يوماً مقالاً، وأرسلته إلى مجلة الإخوان، وارتقبت نشره، فلم ينشر، وساء ظني بنفسي فتركت الكتابة...
وبغتة تلقيت بالبريد رسالة من المرشد العام، عرفت فيما بعد نبأها... لقد دخل إدارة المجلة وساءل الأستاذ صالح عشماوي رئيس التحرير: لماذا لا أقرأ للإخوان مقالات جيدة؟ وما السبب في ضعف المجلة؟ ومدّ يده -غير متعمد- إلى ملف المحفوظات المنتفخ بالمقالات التي رُئي عدم نشرها، ووقع بصره على مقالي! وغضب غضباً شديداً لإهماله، وأمر بجعله "افتتاحية" العدد المقبل.
وبعث إلى برسالة شخصية هذا نصها: "أخي العزيز الشيخ محمد الغزالي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته –قرأت مقالك "الإخوان المسلمون والأحزاب" فطربت لعبارته الجزلة، ومعانيه الدقيقة، وأدبه العفِّ الرصين، هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان المسلمون. اكتب دائماً وروح القدس يؤيدك والله معك. أخوك حسن البنا، المرشد العام للإخوان المسلمين".
وأصبحت بعد هذه الرسالة من كتاب الجماعة الأوائل، واستبشرت بأن الله سيلهمني الرشد فيما أكتب!

--طبائع بيئات --
كنت أتحدث مع شيخي الجليل محمد عرفة –رحمه الله- وكان عضواً في جماعة كبار العلماء، فقال لي: هناك بيئات خاذلة مثبطة، وهناك بيئات دافعة منشطة! تأمل في قول الشافعي: الليث أفقه من مالك، ولكن قومه لم ينهضوا به!
إن أهل المدينة عظموا مالكاَ ودفعوه إلى الصدارة، أما المصريون فأهملوا الليث حتى نُسي...
قال: والبيئة الأزهرية من النوع الأخير! ما تنهض لواحد من بينها، إلا إذا فرضته عليهم قوى من الخارج.
ومع سير الأحداث واختلاف الأيام شعرتُ بأن الشيخ محمد عرفة كان على حق في الحكم الذي أصدره، وهو حكم على الأعم الأغلب.
ويوجد في كل أوان من يلتزم بالإنصاف ويكره الحيف: ﴿وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ (الأعراف:159).

--طلب مرفوض --
أقول ذلك متعجلاً قصة وقعت لي بعد التخرج بسنين، أسوقها الآن للموازنة بين مسلك ومسلك، أو بين إنصاف وإجحاف! في الخمسينيات كان في مصر ما يسمى بالمؤتمر الإسلامي، يتولى أمانته العامة القائمقام أنور السادات. وحدث أن وجه المؤتمر دعوة إلى الكتاب والمفكرين المسلمين ليقوموا بعمل ما في خدمة الرسالة الإسلامية، وضم المدعوِّين اجتماع تمهيديٌّ كان من بين رجاله لأستاذ الدكتور محمد يوسف موسى، الذي نظر فيمن حوله فلم يرني! وكان لي يومئذ بضعة عشر مؤلفاً في خدمة الدعوة والدفاع عنها...
وكان الجمع يضم عدداً من علماء الأزهر، وكبار الأدباء... وما كان الشمل يلتئم والعمل يبدأ حتى قال الدكتور محمد يوسف موسى للسادات –أمين المؤتمر- بصوت مسموع: "أرى أن يكون معنا في تحقيق أهدافنا رجل ليس بيننا الآن، الشيخ محمد الغزالي!"
قال الدكتور الفاضل: "وما كدت أنتهي من قولي حتى خيَّم على المجلس صمت شامل، طال فترة حتى أحسست بالحرج، وما أغراني بالكلام إلا أن هناك أزهريين كثيرين، اعتقدتُ أنهم سوف يؤيدونني! لقد لاذوا بالسكوت جميعا!
وما أنقذني من الخجل إلا صوت الأستاذ عباس محمود العقاد، وهو ينطلق أجشّ على عادته: نعم أنا قرأت لهذا الشاب، وينبغي أن يكون معنا!"
وعندئذ تحرك جمهور المشايخ يثني علي ويؤيد وجودي...!
ولم توجَّه إلىّ دعوة، ولم أعرف ما تم بعد ذلك، وأظن الأستاذ العقاد ألف كتابه حقائق الإسلام وأباطيل خصومه إجابة لرغبة المؤتمر...
ومن المفيد أن أذكر أنه لا علاقة بيني وبين العقاد ولم أحضر للكاتب العملاق ندوة أو تربطني به صحبة، وإن كنت من أشد الناس إعظاماً لأدبه وعلمه.
إن تشجيع حسن البنا لي، وإقبال الإخوان عليّ كانا من أقوى الأسباب في عكوفي على التأليف؛ مع تجهُّم الحكام لي وضيقهم بي... واستطعت –وأنا طالب- أن أجمع بين مواصلة التعليم ونشر الدعوة في العاصمة والأقاليم...
ولا ريب أن الخطابة الدينية ارتقت في مصر، وفي أقطار أخرى مع نماء جماعة الإخوان، وتحولت الكلمات الميتة التي كانت تُسع من المنابر إلى كلمات تهتز بالحياة والحماس، ويدرس فيها التاريخ الإسلامي والسيرة النبوية، وتتأكد فيها رغبة الإسلام في استعادة أمجاده واستئناف سيره...
وسُمع الطعن صريحاً في القوانين الوضعية والتقاليد الأجنبية، كما طُلبت العودة صريحة إلى تعاليم الإسلام في كل شيء.
وفي هذه الآونة أنشئت فِرَق العمل، أو ما سمِّي بعد ذلك بالنظام الخاص، وأساس تكوينه مواجهة الوضع في فلسطين، بعد عربدة العصابات اليهودية فيها، وإتمام تحرير مصر بالسلاح إذا لم يخرج الإنجليز طوعا..

--بعض صفاتي --
وكتب اسمي بين عدد كبير من المرشحين للتدريب... وعُرضت قوائم الأسماء على الأستاذ المرشد، فلم يوافق على تجنيدي! وقال له المسؤول عني، هذا رجل مخلص! فقال له: أعرف ذلك من قبلك، لكن هذا نظام عسكري يتطلب طاعة مطلقة...
والشيخ الغزلي يعترض على ما لا يروقه من أوامر، ويقول لك: ما السبب؟ وأين الدليل؟ ثم هو لا يحسن الكتمان، إذا سخط بدا سخطه على وجهه، والسرية المطلقة أساس هذا النظام...!
دعوه يكتب ويخطب وينشر الدعوة الإسلامية في الميدان الذي يصلح له ولا يصلح لغيره...
وغضبت عندما بلغني هذا الحوار، وبقيت كسير الخاطر أمداً، وإن كنت أؤدي عملي برتابة ووفاء...
وجاءني يوماً الأستاذ محمد فريد عبد الخالق، وهو من أنضج رجال المركز العام، جاءني يزورني في البيت، ورأى على الجدار شيئاً أثار انتباهه، قال: ما هذا؟ وأمسك بإطار ساذج، فيه صورتي بملابس التدريب العسكرية مثبتة في فراغ كتاب موجه لي من الأستاذ المرشد العام، الكتاب الذي أثنى عليّ فيه ودعا لي بخير!
قلت: هذا أثر أعتز به! قال: أتحب المرشد إلى هذا الحدّ؟ وأجبت ببراءة: نعم!...
وعرفت فيما بعد أن ناساً كانت تشكك في ولائي للدعوة وقائدها، لأني كنت في مناسبات وجلسات مختلفة أعترض أو أرفض ما لا أسيغ...
على أن حسن البنا كان أذكى وأكبر من أن تغيِّره تعليقات المبغضين، بيد أن ذلك جعلني أحاسب نفسي فيما أقول وأنقد، وجعلني أحذر غَدَرات الناس ومفترياتهم...
ترى هل نجحت في تغيير طبعي؟ ليس كثيراً على أية حال...!
لقد مشيت وراء الرجل الذي عرفته في طريق الحق وعبادة الله، لم يكن حسن البنا محترف سياسة، ولا صاحب دهاء وحيل، وإنما كان ربانياً عامر القلب بذكر الله، وبجمع الشباب والشيب في الصلوات الخاشعة والتلاوة الباكية، والخطابة التي ترفع مستمعيها إلى مستوى رفيع من الروحانية والتجرد وحب العلم لله والذود عن دينه...
وكانت هذه المشاعر الجياشة تنقص أساتذتنا في كلية أصول الدين، إذا كانت الدراسة نظرية شاحبة، تجري على الألسنة ولا تتحرك بها القلوب!
بل أرى أنه من الناحية العلمية بحاجة إلى إضافات مفيدة، وإلى بتر أو إيجاز موضوعات أثرية لا قيمة لها، وربما احتاج الأمر إلى إعادة تشكيلها في نظام داخلي يمتدّ إشراقه على اليقظة والمنام والعمل والاستجمام.
لا أدري كيف حصلت على شهادتي العالية 1941؟ إنه لولا عون الله ما تم ذلك!
ولم أكن متقدماً في ترتيب الناجحين، فهل أحزنني أني لم اكن من العشرة الأوائل؟ كلا! إنني ما تأخرت عن بلادة أو تقصير، كانت الأحوال التي تكتنفني رديئة، لا أذكر أنني ملكت كتاباً طول السنوات الأربع، وأنّى لي ذلك؟
وعندما عرض علينا شرح النووي لصحيح مسلم بنصف جنيه مقسطاً على عشرة شهور؛ هززت رأسي بأساً، وقلت: ما معي يكفي للأطعمة والملابس...! واختفيت دون أي يشعر بي أحد!

--عذر مقبول --
واضطرني هذا للإنصات بعمق إلى شروح الأساتذة، وكنت استحضرت من دكان أبي بعض الأوراق التي تُلف بها السلع، لأدوِّن فيها ما أرى ضرورة تدوينه.
وربما جالست بعض الزملاء الذين يملكون كتباً لأتثبَّت من حكم أو أستذكر ما نسيت! وكم نسيت من قضايا وحقائق!
وأورثني هذا خلالاً أصبحت طبعاً ثانيا؛ صرت كالمكفوفين الذين يعتمدون كثيراً على ذاكرتهم.! وتعلمت الاقتصاد في الأوراق، فليس هناك مبيضة ومسودة، هي ورقة واحدة تلك التي تكتب، والتي ستقدم للمطبعة فيما بعد وهذه الورقة لا يترك فيها فراغ، ينبغي أن تُستغل من أولها إلى آخرها...!
حتى بعد أن أفاء الله وبارك، بقيت هذه الخلال تغلبني...!
ووقعت حادثة أريد إثباتها لما فيها من عبرة! جائتني "برقية" من البلد تطلب حضوري فوراً، فأدركت أن خطراً داهم الأسرة، وسافرت وأنا مشتت الذهن، واسودّت أفكاري عندما رأيت دكان أبي –عن بعد- وهو مغلق.

--دعوة مستجابة --
تحرّكت قدماي بلا وعي إلى البيت، ورأيت أبي يصرخ من "مغص كلوي" أصيب به، والأولاد من حوله حيارى، وقد أعطاه الطبيب بعض الأقراص المخدّرة، ولكن الآلام كانت أربى وأقسى، وقالوا: لا بد من جراحة تستخرج ما في الكلى من حصيَّات...
وفتحت الدكان ووقفت مكان أبي أعمل، وأنا خبير بذلك لأني في أثناء الإجازة الصيفية أساعده، ومضت عدة أيام ونحن نتروّى ونتدارس ما نصنع... أجور الأطباء فوق الطاقة، ولو أمكن إعدادها فإن الجراحة يومئذ غير مأمونة العقبى، وقد مات عمٌّ لي في جراحة مشابهة... ماذا نصنع؟
وحاصرني غم ثقيل، وأخذت شخوص الأشياء تتقلص أمام عيني، وثبتت بصيرتي على شيء واحد، الله وحسب! وكأنما كنت أكلم الناس وأنا حالم...
وجاء رجل يشتري بعض الأغذية، ولما قدمتها له قال لي بصوت ضارع: ليس معي ثمن الآن، وأقسم بالله أنه صادق، وأنه غدا يجيء بالثمن!
ووقر في نفسي أن الرجل محرج فقلت له: خذ البضاعة وهي مني إليك... وانصرف الرجل غير مصدّق ما سمع...!
أما أنا فذهبت إلى ركن في الدكان، وقلت: يا ربّ، نبيّك قال لنا داووا مرضاكم بالصدقة! فأسألك أن تشفي أبي بهذه الصدقة...!
وجلست على الأرض أبكي، وبعد ساعة سمعت من يناديني من البيت –وكان قريباً- فذهبت على عجل وقد طاش صوابي...
وفوجئت بأبي يلقاني وراء الباب يقول: نزلت هذه الحصاة مني –وكانت حصاة أكبر قليلاً من حبة الفول- لا أدري ما حدث، لقد شفيت...!
وفي صباح اليوم التالي كنت في الكلية أحضر الدروس مع الزملاء...!
إن الذي يجيب المضطر إذا دعاه رحمني ورحم الأسرة كلها، فله الحمد...

--حول منهج الدراسة --
إن المناهج العلمية التي قُدمت لنا في كلية أصول الدين تكفي –مع إضافات قليلة- لتكوين مدرس ناجح وداعية موفق، غير أني أقول بتواضع إن عرض الإسلام وعلومه اليوم بالأسلوب نفسه الذي كان يُعرض به في القرن السادس أو السابع غير مفهوم، ولا دلالة له على أزمة حادّة في المواهب والعزائم...
ولا أدري ما يحدث الآن في الأزهر، وإنما أشكو أن علم أصول الفقه –وهو علم ثانوي في كليتنا- دُرِّس لنا بطريقة مُخلّة، والقدر الذي قدّم لنا من حقائقه غير كاف، ومنهج هذا العلم من ينابيعه الأولى متفاوت، وما سلكه الغزالي والآمدي غير ما سلكه الشاطبي في الموافقات، وهؤلاء لهم مسلك يخالف من وجه مسلك فقهاء الأحناف...
وهناك مع الأصول العامة قواعد فقهية نشأ عنها تباين وجهات النظر بين الشافعية والأحناف، كما أشار إلى ذلك الزنجاني.
وبديهي أن الاستبحار في هذا العلم من اختصاص كلية الشريعة، ولما كان الدعاة المسلمون يواجهون مشكلات مذهبية وفقهية فيجب أن تقدم لهم خلاصات معقولة، يتوسع بعدها الدارس كيف يشاء.
والمؤسف أنه لا الكلية الأصلية، ولا الكلية التابعة يتحقق فيها ما ينبغي، ويوشك أن يوضع هذا العلم في المتاحف!
وما يقال في علم أصول الفقه، يقال في علوم السنة، وعلم مصطلح الحديث الذي يدرس قواعد وتعاريف تحتاج إلى التطبيق الواسع، ولا تساق على هذا النحو الجاف العقيم! سمعت أستاذ المنطق يعرِّف علم المنطق بأنه آلة قانونية تعصم الذهن عن الخطأ في الفكر! ورآني بعض الزملاء مشمئزاً، قال: ما خطبك؟ قلت: تعريف سخيف!
قال: وما التعريف الصحيح عندك؟ قلت: ماذا لو قيل: قواعد تصون العقل عن الخطأ في التفكير؟ بدل عبارة "آلة قانونية"؟
قال: إن الكتاب المقرر وهو "القطب على الشمسية" عليه شروح وحواش وتقارير كثيرة، تريد أن ندعها لاقتراحك هذا؟ دعنا من فلسفتك! وقال: آخر -يمزح وهو في الواقع جادّ- هل هذا أيضاً من الدعوة الإسلامية؟
قلت: المعروف عن الداعي أن يكون لديه من كل روض زهرة! وأرى أن الدعاة الكبار قد يكونون أقدر منا لأخصائيين في فنونهم الأصلية، ألا ترى أبا حامد الغزالي كتب تهافت الفلاسفة فكان يُطرّ من عقله الكبير على أرسطو وجماعته، فيكتشف مواقع القصور في نظرهم والخلل في قولهم؟
إن الدعوة الإسلامية ليست ثرثرة واعظ منكم؛ يزهِّد في الدنيا، إنها فكر كشّاف يعمل قبل كل شيء على ميز الخبيث من الطيب والخطأ من الصواب...
وقلت -مؤثراً عدم الاشتباك- الإنسان هو العنصر الأول في كل معركة، إنه قبل أي سلاح مهما بلغ فَتْكه وبَعُد مداه...
الحق أن الأزهر يحتاج إلى تجديد ثقافي وروحاني يقوم به رجال أولو عزم...
وقد كان ذلك مطلوباً قبل ما عراه على يد الناصريين، فكيف بعد ما غاض رونقه وقاده المهازيل؟
قلت: إنني تخرجت من الكلية السنة 1941، وصحيح أن أمامي تخصصاً في الدعوة والإرشاد، أقضي فيه عامين حتى أنال "العالمية مع إجازة الدعوة والإرشاد"...! بيد أن شهادتي العالية تتيح لي أن أجد عملاً أرتزق منه، وكنت -على فقري- جامح الرغبة في الزواج!

--البحث عن وظيفة --
وحصول الأزهري على عمل كان على عهدنا شيئاً بعيد المنال، وهذا جزء من خطة محكمة لتخريب الأزهر، وصرف الناس عن التعليم الديني كله...
ولاح الأمل عندما أعلنت وزارة الأوقاف عن مسابقة بين خريجي الأزهر لشغل وظائف "الإمامة والخطابة والتدريس" الخالية بمساجدها...
وتقدمت للمسابقة مع مئات كثيرة من "العلماء العاطلين"، وكانت تحريرية وشفوية...
وفي الامتحان الشفوي وقعت بيني وبين أعضاء اللجنة مجادلة حادّة؛ بدأت بعمل مني كان طائشاً... كان أحد الأعضاء يسألني في القرآن الكريم، وكنت أحفظه جيداً، وأجبت عن كل ما سئلت عنه، والرجل يتابعني في مصحف كبير أمامه، وينتقل بي من صفحة إلى صفحة وأنا ماض في التلاوة...
وردَّني في كلمة، فتوقفت ثم مددت بصري إلى المصحف الذي معه، فقال لي بدهشة: ماذا تفعل؟ قلت: أريد أن أستوثق هل أخطأت حقا؟ فأنا أحفظ جيداً...!
وشتمني رئيس اللجنة -وكان الأستاذ أحمد حسين أخا الدكتور طه حسني، وهو يومئذ مفتي الأوقاف.
وجاء دور الأستاذ أمين الخولي الذي طلب مني تفسير آيات قرأتها، وأجبت فخطأني، وذكرت رأياً آخر في التفسير فخطأني، فقلت وأنا أضبط أعصابي: وددْتُ لو أعرف الحق، فقد ذكرت كل ما أعرف! قال: ذاك في قاعة الدرس لا في لجنة الامتحان.
وتدخل مدير المساجد الشيخ سيد زهران قائلاً للشيخ أمين: لقد اعترف الطالب بعجزه، فدُله على الجواب! فقال مرة أخرى: ليس هنا...
فقلت بنـزق: لا جواب إلا ما قلتُ، وأتحدَّى إذا كان هناك جواب آخر!
وعاد الشيخ أحمد حسين إلى توبيخي، أما الأستاذ أمين الخولي فأدار ظهره معرضاً عني ومنهياً المناقشة.
ولكن سؤالاً وُجِّه إلي من مدير المساجد: ألق الخطبة التي أعددتها، فقلت اقترح أي موضوع أتحدث فيه، وقمت فتحدثت في موضوع اقترحه وانصرفت...
وظهرت النتيجة بعد أسبوعين، وكنت الخامس بين الناجحين، وتم ذلك بما يشبه خوارق العادات! وعُيِّنتُ إماماً وخطيباً ومدرساً بمسجد "عَزَبان" بالعتبة الخضراء، ولم يلق هذا الحظّ أحد من زملائي معي!
"الإمامة والخطابة والتدريس" هذه الوظيفة المثلثة هي التي كلفت بها ورزقت منها صدر شبابي، لقد كان عملي في مسجد محدود المساحة، لكن موقعه في قلب القاهرة، وفي سوق تزدحم بالناس سحابة النهار وزلفاً من الليل...
والمصريون شعب له حسٌّ مرهف من الناحية الدينية! عندما يجد واعظاً جاداً يُدرِّس موضوعه، ويحسن شرحه يلتف حوله ويعمر مسجده، ومن ثم لم يمض شهر حتى كان جزء كبير من ميدان العتبة يفرش بالحُصُر، وتنقل له الخطبة بالمكبرات!
لقد كان عملي في مسجد محدود المساحة، لكن موقعه في قلب القاهرة، وفي سوق تزدحم بالناس سحابة النهار وزلفاً من الليل...
والمصريون شعب له حسٌّ مرهف من الناحية الدينية! عندما يجد واعظاً جاداً يُدرِّس موضوعه، ويحسن شرحه يلتف حوله ويعمر مسجده، ومن ثم لم يمض شهر حتى كان جزء كبير من ميدان العتبة يفرش بالحُصُر، وتنقل له الخطبة بالمكبرات!

--اكتشاف مهم --
وأدركت بعد شهر واحد أنني جاهل، وأن حصيلتي العلمية استنفذت خلال أسابيع، وأني إذا لم أجدِّد نفسي، وأقع على ينابيع ثرَّة تمدني بالمعرفة افتضحت حتماً...
لقد كنت مغروراً بعدد من المحاضرات والدروس أجيده، وأتنقل به في أنحاء البلاد! أما الآن فأمامي منبر واحد يثوب الناس إليه من كل فجّ، وينبغي أن أقدم كل يوم درساً، وكل أسبوع خطبة!
إنني في هذا المسجد عدتُ تلميذاً مرة أخرى، وكان الكتاب الديني وغير الديني أستاذي، وكان إذا حضر عميد كلية أصول الدين في طريقه إلى مجلس الأزهر الأعلى، أحبسه لأستفيد منه حلولاً كثيرة لمشكلات علمية تعترضني...
فإذا تبرم لطول ما أحبسه أقول له في جدٍّ: أنتم أعطيتموني الشهادة على جهل، فتداركوا ما فعلتم، يضحك ويصبر!
في هذا المسجد وفيما تلاه من ميادين عمل كانت لي صفة مزدوجة، فأنا من رجال الإخوان المسلمين، وأنا من علماء الوزارة، ولم أكترث أو أشعر بحرج ما في المزج بين الصفتين: الرسمية والشعبية...
وانضم إلى ذلك أني أنتسب إلى تخصص الدعوة والإرشاد، فضمَمْت صفة ثالثة، صفة طالب يستطيع القيادة لزملائه...

--قصة مضحكة --
وأحكي هنا طرفة حدثت لي أول عهدي بالإمامة، كان مدير المساجد حسن الظن بي منذ أن شارك في اختباري، فاستدعاني إلى مكتبه وكلفني بالاستعداد لصلاة الجمعة بالملك فاروق، وامرني بإعداد الخطبة المناسبة، وأفهمني أن ذلك في افتتاح مسجد بحيّ "المنيل"...
وفي يوم الخميس كنت بوزارة الأوقاف، وأخذ الرجل الخطبة وراجعها، وذهب بها إلى قصر عابدين فأقرت، واتصل بي من القصر تلفونياً يطلب مني الاستعداد لإلقاء الخطبة غداً! ثم قال: وللحيطة تعال إليّ في البيت نذهب إلى المسجد معاً...
وفي الصباح كنت عنده جالساً في حجرة الاستقبال أنتظر دخوله بعد ما فتح الخادم لي...
ودخل المدير ونظر إليّ فكاد يصعق، وأخذ يُجمجم بكلمات لم أتبيَّنها وهو يتميَّز من الغيظ! يا أستاذ تجيء للصلاة بجلالة الملك في هذه الجبة البالية وهذا الجلباب الرخيص؟
وشعرت بحرج بالغ، وتملكني الخجل، ثم غلبتني طبيعتي الضاحكة فقلت: الجبة حسنة، أما الجلباب فأنا ألبس ما ترتديه الشيوخ من نسيج برّاق لمّاع، ثم لا تنس أني ألقاك بهذه الثياب، وأنت والملك سواء...!
فقال: الرسميات يا...!
وأخذ الرجل يفكر بسرعة ليخرج من هذه الورطة، وأرسل إلى مفتش مساجد قريب في مثل جسمي، واستعار منه ملابس أخرى فاخرة، وأكرهني على ارتدائها، وكانت أطول مني قليلاً، فعلمني كيف أحافظ على سمتي داخلها...!
وانتهت الصلاة بخير، وكان شديد القلق إلى أن انصرف صاحب الجلالة، فاقتادني إلى البيت وهو يسُبّ الظروف التي عرفته بي! ويحمد الله أن تم الأمر بستر! وأنا أواجه هذا كله بالضحك، وأقول: أما من وسيلة للهرب بهذه الملابس؟
ومع هذه الحادثة الطريفة فإن الصداقة ربطت بيني وبين المدير، وكنت أعاونه في بعض القضايا العلمية حتى مات رحمه الله...

--زواج سعيد --
ومع تسلمي للعمل الحكومي تم زواجي، وكان الأستاذ حسن البنا تدخّل في المسألة التي بدأت معقدة، فإن والد الفتاة التي اخترتها كان يطمع في زوج أغنى مني؛ إنه من قريتنا، وإن كان موظفاً بوزارة العدل في القاهرة، وعلم أن مرتبي ستة جنيهات، أعطي أبي نصفها تقريبا...!
لكن الأستاذ المرشد أقنع الرجل بأني أفضل من غيري، والمستقبل بيد الله، وسيكون خيراً...
وتزوجت، وسألني الأستاذ المرشد: ماذا فعلت مع فلان –يعني صهري- فقلت له: دخلت بابنته! قال عاتبا: لمَ لم تدعني وتمثل بقول الشاعر وهو يبتسم:
وإذا تكون كريهة أُدْعَى لها وإذا يحاس الحبس يدعى جندب!
فقلت: لم تكن هناك وليمة! اكتفينا بأشربة حلوة، تناولها بعض الزملاء، وأوسع لي الرجل غرفة في بيته والحمد لله... فدعا لنا بالبركة...!

--ونهاية! --
لقد عشت مع زوجتي ثلاثين سنة كأسعد زوجين في الدنيا، وكافأتها على رضاها بفقري، فأسكنتها الغرف، وأذقتها الترف، وجعلتها تدوس الحرير والذهب! وأنجبت منها تسعاً من الولد، استودعت ربي اثنين، وبقي لي سبع من الإناث والذكور، ثم فارقتْ الدنيا على غير انتظار، فبكيتها من أعماقي، وتمثلت بما قيل:
أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر!
لقد تركتني أحسن الطير أن أرى أليفين منها لا يروعهما الذُّعر!
رحمها الله أوسع رحمة، ورفع درجتها في عليين...
فلأترك هذه الزفرة التي غلبتني، ولأعدل إلى شرخ الشباب وأيام السير الحثيث والكدح الدؤوب...
ولكي أشرح عملي يجب أن ألقي الضوء على الأحوال الاجتماعية والسياسية التي تمر بأمتنا يومئذ.
كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت بنصر إنجلترا وفرنسا وأمريكا؛ ومع أن الحرب دارت رحاها وتمت معاركها الحاسمة في أرضنا، فقد كان العرب والمسلمون فيها عنصراً تافهاً...
ولكي أشرح عملي يجب أن ألقي الضوء على الأحوال الاجتماعية والسياسية التي تمر بأمتنا يومئذ.
كانت الحرب العالمية الثانية قد انتهت بنصر إنجلترا وفرنسا وأمريكا؛ ومع أن الحرب دارت رحاها وتمت معاركها الحاسمة في أرضنا، فقد كان العرب والمسلمون فيها عنصراً تافهاً...

--حال المسلمين يومئذ --
إن تخلفنا الحضاري والإسلامي كان بعيد المدى، والفُرقة التي مزّقت جماعتنا أذهبت ريحنا وأحبطت سعينا، وبلغ من جنون الحقد على المستعمر المباشر أن بعض الشباب هتف في الإسكندرية تقدم يا روميل عندما كان القائد الألماني يطارد الفلول الإنجليزية المبعثرة في الصحراء!
وأنا أفهم كره العرب لمن خلفوا إسرائيل في أرضنا -وكانت وقتئذ جنيناً في المخاض- لكن ماذا يفيده استبدال مستعمر بمستعمر؟
إن هذا الاتجاه الأعمى دليل فراغ رهيب! والذين يريدون النهوض بأمتنا على نحو راشد ليس أمامهم إلا إزالة هذا الفراغ، وإحلال عقائدنا ومناهجنا مكانه، وذلك ما كنا نصنعه مع أستاذنا حسن البنا، وليتنا توفرنا على هذا مكانه، وذلك ما كنا نصنعه مع أستاذنا حسن البنا، وليتنا توفرنا على هذا وحده، والحديث في هذا ذو شجوني، وليس هنا مكانه!
ومع النشاط الذكي الذي قام به حسن البنا في إيقاظ القاعدة الشعبية، كانت في مصر أحساب صورية، ما عدا حزب الوفد الذي كان يمثل تسعة أعشار المصريين في أي انتخاب حر، أما الأحزاب الأخرى فتدور في فلك القصر الملكي، ترتقب خلاص الملك من ممثلي الشعب لتتولى هي الحكم في ظل انتخابات مفتعلة...
ومن الواجب أن يُعرف الوضع الديني على صورته الكاملة، إن جمهرة المنتمين للأحزاب السياسية، الصحيحة والمزوّرة، كانوا مسلمين يسود بينهم المفهوم الغربي لمعنى الدين!
الدين عندهم ليس إلا صلة بين المرء وربه تظهر في الصلاة والأخلاق، وبعض المسالك الخاصة! أما أنه تشريع شامل يصوغ الروابط بين الإنسان والإنسان، ويُملي تعاليمه في شؤون الحكم والاقتصاد فذاك ما لا يُدرى!
وهناك ناس تمرَّدوا على الدين كله، عقائده وشرائعه، وساروا وراء ملاحدة الغرب والشرق، لا يلوون على أحد، وكلا الصنفين يضيق بجماعة الإخوان ودعوتهم، وقد يرفضها دون مبالاة، أو يعلن الحرب عليها بقسوة!
ولما انتظمت في تخصص الدعوة والإرشاد بكلية أصول الدين عنَّ لي أن أؤلف اتحاداً لإعادة التشريع الإسلامي، يزاحم الاتحادات الطلابية الأخرى، ويظهر أن الأرض كانت ممهدة، فسرعان ما اكتسحنا الساحات الأخرى، وأخذنا نوزع ألوف المنشورات لنبلغ غايتنا!

--محاولة فاشلة --
طلبنا مقابلة رئيس الوزراء –وكان مصطفى النحاس باشا- للتفاهم معه، فحدد لنا الرجل موعداً ضحى أحد الأيام، ودخلت أتقدم زملائي، فرأيت الباشا مُتجهِّماً، وبعد أن نظر إلينا بازدراء قال لنا: إنه مؤمن بالله، وإنه أكثر إيماناً من شيوخنا، وإنه كان في المعتقل لا يدع صلاة! ثم شرع يوجِّه إلينا نقداً أشبه بالسباب...!
ونظرت إلى الرجل فوجدته غير متكلف، وشعرت أن لشعبيته أساساً من بساطة خلقه، ورأيت أن أقاطعه على عجل قبل أن ينال منا!
فقلت له: إنك تحكم بلداً يُصدر تراخيص بالزنا، ويفتح حانات الخمور، ويحل ما حرّم الله! فأين ما تحكي عنه من إيمان وصلاة؟
وقدمت له مطالبنا فأخذها ورمى بها في وجهي، وكان معه الشيخ محمد البنا وكيل الوزارة للشؤون الدينية، فقال بأدب جم، مهلاً يا رفعت باشا إنهم يطلبون بعض الإصلاحات الاجتماعية التي تفكر فيها والتي سبق أن كلمتني عنها، وأخذ ورقة المطالب وانسحب إلى غرفة أخرى.
وبعد جدال مُمِل انصرفنا، وعلم الأستاذ المرشد بما وقع فاستدعاني ولامني على تأليف الاتحاد، وعلى السير به إلى هذه المرحلة، وأفهمني أن منهج الإخوان وحده هو الموصل للهدف المنشود، وإن طال المدى، ومن الخير أن أكرس جهودي كلها له، وتم الوفاق على ذلك، وأنهينا التشكيل الذي صنعناه.
استأنفت العمل ناشطاً راغباً في ميدان الدعوة، وسرني أن الأستاذ المرشد العام جعلني سكرتيراً لمجلة الإخوان المسلمين، فكنت أكتب كثيراً، تارة بتوقيعي وتارات بتوقيعات أخرى، وكنت أتردد على مكتبي بانتظام، وأجمع بين عملي في المسجد وعملي في التحرير...

--الديمقراطية --
وكوَّنت عدة أحكام على أوضاعنا المختلفة كان لها أثر في حاضري ومستقبلي!
ففي أعقاب لقائي برئيس الوزراء، وزعيم حزب الوفد مصطفى النحاس باشا، قلت لمن معي: هذه هي الديمقراطية الغربية بخيرها وشرها!
طالبنا بمقابلة الرجل فلقينا وأسمعنا رأيه فينا، وأسمعناها رأينا فيه! وبعد نقاش عاصف أذن لأحد مساعديه أن يجتمع بنا، ثم عدنا إلى أعمالنا العادية، فما صدر أمر بنقل موظف، أو فصل طالب أو اعتقال إنسان!
وأذكر أنه عندما رشح الأستاذ حسن البنا نفسه في دائرة الإسماعيلية استدعاه النحاس باشا، وقال له: إن الإنجليز يأبون أن تكون في مجلس النواب، وأنا لا أزوِّر انتخاباً أبداَ، فهل تنقذنا من هذا الحرج، وتنسحب بإرادتك، ونعدك بتمكينك من نشر دعوتك حيث أحببت، بعيداً عن المجلس...؟
وعرض الأستاذ المرشد الأمر على الإخوان فوافقت كثرتهم... وانسحب حسن البنا من الانتخابات.
والواقع أن وزراء الوفد زاروا المركز العام، ومنعوا عوائق كانت في طريق الدعوة، وتضاعفت شُعب الإخوان...
بيد أن هذا الجسر بين الفريقين انهار لأسباب أرى أن كلا الفريقين مسؤول عنها... فالوفديون شعروا بالغيرة من اتساع نفوذ الإخوان، والترحيب الحار الذي يستقبل المصريون به الدعاة المسلمين، وضمّوا إلى هذا الشعور كلاماً سفيهاً عن حسن البنا يصفونه بأنه موظف صغير، أو مدرس لغة عربية، أو مدرس خط!
أما الإخوان فقد كان همزة الوصل بينهم وبين الوفد الأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة، على حين كان هناك رجل آخر يؤثر أن تقام الجسور بين الإخوان من ناحية، والقصر وأحزابه من ناحية أخرى، هو الأستاذ منير الدالّة رحمه الله...
وقد رأى الإخوان فصل الأستاذ السكري، ولقحت بعد ذلك الحرب بين الفريقين...
لم أكن أهتم بغلبة تيار على تيار، أو قيام شخص على أنقاض آخر، كان المهم عندي ألا يوصف الإسلام بأنه ظهير الاستبداد السياسي، وأن فكرته غامضة عن الحريات الإنسانية!
وكنت أشعر بأن الأحزاب المصرية، صحيحها وسقيمها، لا تعرف الأصول الاجتماعية للإسلام، ولا الطريقة المثلى لمداواة عللنا وعلل الحضارة التي تغزونا...
وكان المنهج الذي نعرضه من خلال دعوة الإخوان هو في نظري خير ما يقال للناس، وكان حسن البنا –فيما رأيت منه- قائداً عابداً، ومجاهداً صامداً، ومربياً قديراً، وداعياً متفانياً، يضنّ باللحظة من عمره أن تضيع في غير عمل للإسلام!

--الأنظمة العالمية --
التفاوت الذي أحسسته كان في التطبيق فقط...!
فطويت نفسي على ما بها، ومشيت مع القافلة التي تكبر الله، وترفع علم الإسلام، وقلت: أُصدر –إلى جانب ذلك- كتباً أشرح فيها وجهة نظري... تدعم تعاليم الإٍسلام في جانب غير مطروق...!
قال لي صديق أحسَّ حالة الانقسام النفسيِّ التي اعترتني:
كأنك تحب الديمقراطية الغربية؟ قلت: بإجمال نعم! لقد رأيت الشعب الإنجليزي يقول لرئيسه تشرشل بعد ما كسب الحرب: عُد إلى بيتك! نحن بحاجة إلى كفاية من نوع آخر! ورأيت الرجل يستقبل القرار مبتسماً، ويعود إلى قريته يستريح ويضاحك الأطفال، كأنَّ شيئاً لم يقع!
قال: والاشتراكية؟ قلت: العناوين لا تخدعني، إن النظام الملكي الرأسمالي في إنجلترا وفّر للطبقات الكادحة حقوقاً يحلم بها زملاؤهم في روسيا، ألم تسمع ما قيل: إن الإنجليز شعب سعيد، والروس شعب لا غني ولا سعيد؟
إن المال على كل حال أحد عناصر الاستقرار النفسي والاجتماعي، لا بد منه يقيناً، ولكنه ليس كل شيء، ولست أقبل حرية لا غنىً معها، ولا غنى لا حرية معه...
ونحن المسلمين ننتمي إلى دين الفطرة، قل لي: بأي عقل يُطلب من مسلم أن يحيا فاقداً كرامته المادية والأدبية...؟
إنني أريد توكيد هذه المعاني للأجيال الجديدة حتى لا ترنو إلى مبادئ مستوردة، أو تفقد الثقة في صلاحية دينها للحياة...
وقد أخطئ في تشخيص علة أو اقتراح دواء! فما ادعيت العصمة، إنني أسرع الناس إلى قبول الحق من غيري، وإعلان فضله، ونشر الثناء عليه.

--راحة الكادح الصبور --
وبينما أنا أعمل في مسجدي بالعتبة الخضراء، والمركز العام للإخوان بالحلمية، إذ تلقيت برقية تستدعيني إلى قريتي...
كنت أعلم أن أبي متعب، ولم يخطر ببالي أن حالته سيئة ودخلت القرية متوجِّساً أتصفح الوجوه وأتعجل الأخبار، حتى وقع بصري على دكاننا من بعيد فرأيت أخاً لي يقف به فأدركت أن أبي مريض، واتجهت تواَ إلى الدار...
وجدت أمي تبكي، وأبي طريح الفراش إلى جوارها، تناولت يده وقبَّلتها بحنان، فنظر إلي واستراح لمرآي! ورأيت علباً وقوارير فعرفت أن الطبيب حضر، وكتب هذه العقاقير، ويظهر أنها لم تحقق نفعاً يُذكر...
وجئت بالطبيب مرة أخرى لأن هيئته أقلقتني، ولما حضر الرجل لم يحاول أن يخدعني، وفهمت أن هناك عدة أمراض بالمسالك البولية يعجزه التغلب عليها، ويوشك مع تضخّم "البروستاتا" أن يحتبس البول، وحالة الجسم لا تتحمل الجراحة...!
وتناوبنا بالسهر على تمريضه، وتحت ضغط أمي طلبنا الطبيب ليعالج التدهور المستمر... واعتذر الرجل عن الحضور، إنه يائس...
ونمت بعد الظهيرة نوماً طويلاً لأني سهرت أمس، وجلست إلى جوار أبي، وقررت أن أصلي جنبه، وبعد العشاء أخذت أرقبه...
كانت ليلة ليلاء هدأ كل من في البيت بعد أن غلبه الإعياء، وبقيت يقظان، قال لي بصوت خافت: إنني أموت! وخرست فلم أنطق! كان المصباح المضاء بالبترول مثبتاً في الجدار، فشعرت كأن ذبالته ارتعشت، قلت في نفسي: أدَخلَ ملكَ الموتُ فخفق جناحه خفقة اضطرب لها المصباح؟ وأصخت إلى أبي فسمعته يدعو لي... ثم سكت السكوت الأخير...
في الصباح كان الرجال يحملون الجثة، ورأيت أمي متعلقة بأقدام الميت الراحل تقبلها، وتدفن وجهها في باطن الأقدام، وهي في شبه غيبوبة، خلّصت الجثة منها بصعوبة...
إنني أنا الآخر أريد من أعماق قلبي أن أنفجر بالبكاء، ولكني لا أقدر، يجب أن أتماسك، فقد أصبحت كبير هذه الأسرة، إذا انهرتُ انهاروا، يجب أن أتشبّه بأبي الذي كان يتظاهر بأن أزمة الأمور كلها في يده؛ وهو لا يملك شيئاً إلا الثقة في الله...
ما أعظم الأواصر التي تشدّ الأسرة المسلمة، قلت لوالدتي وأخوتي وأنا أسافر إلى القاهرة لأستأنف عملي: لم يمت أبي، سأرعى الجميع بفضل الله، حتى يتم الذكور تعليمهم، وتتزوج من لم تتزوج من البنات وحقق الله برحماته كل حرف قلته...

--واعظ إخواني --
وقد أشرت إلى الميزة التي وفرها القدر لي، وهي أني أجمع في منصبي بين الصفين الشعبي والرسمي، مما جعلني أملك حق الكلام في مختلف المحافل والمساجد...
وقد اجتهدت إذا تحدثت في أمر ما أن أستوفي عناصره العلمية، وأن أربطه بالمناسبات العابرة على نحو معقول، وأن أجرِّد كلامي من أي زُلفي للحاكمين، وأن أضمنه تصريحاً أو تلميحاً ما أنصف به ديني وأسترضي به ربي...
وهي خطة ضاق بها أصحاب السلطة، ولكنهم لم يتحاملوا عليها! وقد ضمَمْت إلى هذا أني ألفت كتاباً عن الإسلام والاستبداد السياسي، لخصت فيه بعض ما كنت ألقيه على المعتقلين في "طور سينا" والكتاب نابض بكره الفرعنة؛ ومساوئ الحكم الفردي الغشوم، ومُفعَمٌ بالتوجيهات الإسلامية في سياسة الحكم...

--الانتفاع بالحريات الديمقراطية --
وبديهي أن يجعلني هذا الكتاب وما سبقه في "القائمة السوداء"...! كانت جماعة الإخوان المسلمين منحلة، بحكم القانون، غير أننا رفضنا أن نعترف بهذا الوضع، وسحنا في أرجاء البلاد، نؤكد حياتنا ورسالتنا بلباقة...
ونفعتنا الأوضاع الدستورية القائمة حين ذلك، فتلاقينا وتدارسنا حالتنا، بل إن التيار الإسلامي زاد مَدّه، وتضاعف رِفده، وبرغم المصائب التي حاقت بكثير منا فإن طبيعة التديُّن في شعبنا؛ والحفظ الذي كتبه الله لدينه جعل علم الإسلام يرتفع مرة أخرى...
وفي هذه الأثناء جاءنا من الهند الأستاذ الداعية أبو الحسن الندوي، فكان مَدَداً من أمداد الخير، وترافقنا معاً في الانطلاق من القاهرة إلى الأقاليم، ندعو إلى الله، ونرجع الناس إلى صراطه المستقيم، وقد لاحظت أن التوافق في الفكر يجمع بيننا، في اغل بالنظرات والأحكام، وشعر إخواننا بذلك عن طريق المصادفة المحضة، فكان موضع ترحيب وسرور...
إن السنوات الأربع التي سبقت الانقلاب العسكري الناصري، كانت من أعمق السنوات أثراً في تاريخنا المصري، فقد استطاع الإخوان –في القدر المتاح من الحريات الدستورية- أن يجمعوا شملهم، وينمّوا كيانهم، ويؤكدوا بقاءهم...!

--الأحوال السياسية وجماعة الإخوان --
وانـزاح حكم الأقليات، ورجع حزب الوفد إلى الحكم، وكان نجاحه الكاسح سبباً في أن الأستاذ مصطفى أمين، وهو عدو الوفد المبين، يقول معلقاً على هذه النتيجة: لكل داء دواء إلا الوفد...!
ولم أكن يوماً أنتمي إلى حزب الوفد، فقد عرفت حسن البنا وأنا طالب في الرابعة الثانوية، بمعهد الإسكندرية الديني، ويشرفنى أني كنت تلميذاً لهذا الرجل، بيد أنني حسن الدراسة لديننا ودنيانا، برئ من العلل التي تشوِّه النظر، وتفسد الحكم على الأمور...
واعتقادي أنه لو تم تفاهم بين الهيئتين الشَّعبيتين لنجتْ مصر من النكسة الهائلة التي وقعت فيها بعد ذلك...
وما أحببت هذا التفاهم إلا لشيء واحد، هو ضمان بقاء الدستور الذي نالته مصر 1923، والذي يوفر للمصريين من الحريات –لو نُفِّذ- ما يمنع الفرعنة، ويحمي المستضعفين من الهوان...
إنني –أنا الداعي المسلم- لا أحتاج إلا إلى الحرية، لأؤدِّي واجبي، وأُنجح رسالتي، ويوم أفقد الحرية أفقد كياني كلَّه!
إن الإسلام لا يحتاج إلا لهذه الحرية كي ينتشر وينتصر! وإذا كان بعض الفاشلين في العرض أو القاصرين في الفقه يخشَوْن هذه الحرية فليجاوزوا ميداناً لا يستطيعون أعباءه، وليحترفوا شيئاً آخر غير الدعوة الإسلامية...!
وكان ظني أن الإخوان بعد مقتل مرشدهم وحلِّ جماعتهم في ظل استبداد مسعور، سوف يستفيدون من التجربة، ويستبقون في مصر ضمانات الكرامة الإنسانية، ومعالم الحيات العامة، أفذلك وقع؟ كلا... لقد مشى الأمر في طريق آخر!
وقد أحزنني وأنا في "الطور" أن الإخوان عموماً يرفضون أي اتهام لسياستهم، وقد قلت: إنه بعد هزيمة "أحد" وقع اللوم على "البعض" من الصحابة، فلماذا لا نفتِّش في مسالكنا الخاصة والعام، فقد يكون بها ما يستدعي التغيير! وما يفرض تعديل الخطة؟ لكن هذا التفكير لم يلق ترحيباً...!
والواقع أن الفكر السياسي عند جمهرة المتدينين يتّسم بالقصور البالغ، إنهم يرون الفساد ولا يعرفون سببه، ويقرؤون التاريخ ولا يكشفون عبره، ويقال لهم كان لنا ماض عزيز، فلا يعرفون سرّ هذه العزة، وانهزمنا في عصر كذا، فلا يدركون سبب هذه الكبوة، ويشعرون أن العالم الغربيَّ بزغ نجمه، فلا يدرسون ما وراء هذا البزوغ...!
قلت لأحدهم –وكان يكابرني- ما الفرق بين دستور سنة 1923؛ والدستور الذي جاء بعد أيام الانقلاب الناصري فقال بعد تحيُّر: لا أدري ولا يضرني هذا الجهل!

--نقاش حول الدساتير --
قلت لأحدهم –وكان يكابرني- ما الفرق بين دستور سنة 1923؛ والدستور الذي جاء بعد أيام الانقلاب الناصري فقال بعد تحيُّر: لا أدري ولا يضرني هذا الجهل!
قلت: تدري فقط أن تثير الشغب حول الصلاة بالنعل أو بدونها، وحول انتقاض الوضوء من لمس المرأة أو عدم انتقاضه! فإذا اتصل الأمر بقدرة حاكم ما على تخريب البيوت وتعمير السجون، وحرق الكرامات، وترويع العائلات؛ قلت: الجهل بأسباب ذلك لا يضر!
إن العودة إلى الكتاب والسنة عنوان جميل، وسيكون هذا العنوان على فراغ قاتل يوم يتاح للفراعنة أن يتخطفونا مستندين إلى دستور وضعوه، لم نعرف نحن لِمَ وُضع وكيف؟
قال لي آخ آخر يرقب الحوار: لا تنس أن الدستور الذي نَوَّهتَ به مستورد من الخارج! قلت: لا أنسى ذلك، إنه فعلاً مترجم، ومنقول عن جملة من الدساتير الأوربية الحديثة، وليس كل ما جاء من الخارج يعاب...
إن القوم حصّنوا أنفسهم ضد المظالم المتوقعة بهذه المبادئ القانونية...
فإذا كنا في مصر نتعرض لذات المرض، فلا حرج من مواجهته بالحصانة المجرّبة! إننا نرفض الاستيراد إذا كان ما نجلبه مضاداً لما عندنا، أو كان عندنا ما يغني عنه...
ومن حقي أن أرتقب من الإخوان كراهية من آذَوهْهم، وأهانوا إيمانهم، وكانوا يد الاستعمار العالمي التي بطشت بهم، وزلزلت أركانهم! وأن نُترجم هذه الكراهية إلى موقف سياسي صلب ضدّ الأقليات السياسية أو الأحزاب المصنوعة لخدمة فرد مسلّط...
وعلى أية حال فإنني سوف أعدّ من كبائر الإثم والفواحش، تزوير الانتخابات، وكبْت الحريات، والافتيات على الجماهير، وسأسلك هذه الجرائم مع أنواع الخنا والربا، والسرقات الكبرى، وسأعتبر الحياد في مواجهة هذه الانحرافات خيانة لله ولرسوله ولجماعة المسلمين...
واستطاع الأستاذ صالح عشماوي وكيل جماعة الإخوان، على عهد الإمام الشهيد، أن يفتتح مقراً لهذا النشاط الإسلامي ببيته في حيّ "الظاهر" وشرع يجمع فلول الإخوان من هنا وهناك، ثم تحوّل هذا المركز المؤقت إلى مركز عام، يلقى فيه دروس الثلاثاء، كما كان الأستاذ البنا يصنع، ويجتمع فيه محامو الإخوان لبحث قضاياهم، ويَفِد إليه ممثلوا الشعب القديمة من الوجهين البحري والقبلي...!
وكنا نحس أن وكيل الجماعة يقوم مقام المرشد في غيابه إلى أن ينتخب هو أو غيره من أعضاء الجماعة مرشداً جديداً مكان الإمام الشهيد...
ولم يكن المضيّ في هذا النشاط تسلية بل تضحية، ومغامرة قد تطيح بالنفس والمال، لأن الملك فاروقاً كان قائماً على عرشه، وقد كثر خلصاؤه من أمثال "بوللي" و "إدجار جلاد" و "كريم ثابت"، وآخرين نسيت أسماءهم لبُعد العهد.
عندما عدت إلى القاهرة وجدت أمامي مشكلة عويصة، فإن المحكمة أبت أن تُطبق على علماء المساجد قانوناً صدر لإنصاف حملة الشهادات العالية، ومعنى ذلك أن تبقى مرتباتنا خمسة جنيهات، بينما يأخذ زملاؤنا المدرسون إثني عشر جنيهاً، وكذلك الكتبة والإداريون ومن إليهم!

--انقلاب على الأوقاف --
عندما التحقت بوزارة الأوقاف أول عهدي بالوظائف وجدتها دولة داخل الدولة! ولا غَرْوَ فهي تنفق في مصاريف الصدقات، وتشرف على أنواع الخيرات والمبرات، وتقوم على تحفيظ القرآن وتنشيط الجوانب الروحية والثقافية في المساجد!
وضماناً لذلك كله فهي تزرع عشرات الألوف من الأفدنة، وتؤجِّر مثلها للفلاحين، وتبني مئات الدور والقصور، بل دخلت في بعض الصناعات الزراعية، وأصبحت في الواقع وزارة زراعة واستصلاح، وبلديات ومرافق، وتعليم وثقافة، وصحة وهندسة، وذلك كله لحساب جهات البر الإسلامية...
فلما عدت إليها ثانية كانت الخطة قد أُحكمت للإجهاز عليها، أو تقليص رسالتها في أضيق نطاق، وبدأ التنفيذ بسلخ كل المستشفيات الإسلامية من الوزارة، وإلحاقها بوزارة الصحة...
امرأة صالحة كالخازندارة، وصدت ما تلك لمسجد وملجأ ومستشفي، ابتغاء مرضاة الله وطلباً لمثوبته؛ يجيء الانقلاب العسكري، فيضع مشروعاته لأخذ المستشفي وجعله عامّاً لا خاصاً بالمسلمين، ثم يأخذ بعد فترة الملجأ، ثم يجرد جهة البر الباقية مما تلك من عار أو أرض لتتولى الموازنة العامة شؤون المسجد.
وسوف نرى ما كان يُبيِّتُ لهَ
كان وزير الأوقاف بصفته أميناً على أموال الأبرار من المسلمين، هو الذي يُعين مدير مستشفي "بولاق" للولادة مثلاً، وكان هو الذي يُسأل عن إمداد المستشفي بكل ما يحتاج إليه...
فإذا الوزارة تُكلّف بترك جميع مستشفياتها، ويلغى القسم الطبي بها، وتضيع صلة الوزارة الدينية بمستشفي "قلاوون"، ومستشفي "الملك"، ومَبَرَّة محمد علي، ومستشفي الجمعية الخيرية الإسلامية، ومستشفيات ومستوصفات شتى في القاهرة والأقاليم...
المعروف أن المستشفيات تستقبل المرضى من أهل كل دين، ولكن ذلك لا يعني أن ينـزع طابعها الديني لأنه الإسلام!
إن جمعيات الشباب المسيحية ينتسب إليها مسلمون، فهل يعني ذلك رفع الانتماء المسيحي عنها؟...
إن من حق المسلمين في مصر وفي غير مصر، أن يكون لهم مستشفيات لها طابعها الإسلامي الخاص، ويتأكد ذلك إذا أعدّوا لها من خالص أموالهم ما يكفي ويُغني...
أما الآن ففي مستشفي الجمعية الخيرية الإسلامية بالعجوزة مكان للراهبات المسيحيات، يؤدين فيه شعائر العبادة وهي جمعية خيرية إسلامية. أحرام على بلابله الدوح، حلال للطير من كل جنس؟
وبدأت الأخبار الحزينة تتوالى،فقد صدر قرار ثوري بأن تسلم وزارة الأوقاف كل ثرواتها الزراعية والعقارية لوزارتي الإصلاح الزراعي والإدارة المحلية، وجاءني أحد الموظفين المكلفين بالتنفيذ، يقول لي: إن الوقف الخيري أكبر إقطاعي في مصر! فقلت له: أيوصف أحد بأنه إقطاعي إذا كان ملكه كله للخير؟
إن هذه الأموال لله وحده، حبست عينها، وبقيت ثمرتها تبذل في صالح الإسلام وأمته.
فكيف تؤخّذ منه؟
إن هذا الاغتصاب أكبر أعمال القهر والاجتياح في تاريخ مصر –وماذا عساي أفعل؟ سكتُّ مكظوماً...
ثم جاء نبأ آخر، حُلّت جماعة الإخوان المسلمين، وصودرت أموالها، وألقي القبض على أعداد كبيرة من أعضائها.
لقد كنت مفصولاً بقرار عرف القاصي والداني، فلما وقعت هذه المصيبة أحسست أن رياحاً عاصفة تهب بعنف لتدمر حاضر الإسلام ومستقبله، ووقفت من بعيد أرقب، وماذا عساي أن أفعل...؟
ثم تقرر في محاكمة هزلية قتل ستة من رجال الإخوان بينهم الأستاذ عبد القادر عودة، والشيخ محمد فرغلي و... و... وآخرون...
وقلت لمن أحاطوا بي: طالما حدثتكم عن مساوئ الحكم الفردي، وعدم وجود دستور محترم...
إن الملك فاروقاً لما أراد قتل حسن البنا، دبَّر اغتياله في ظلام الليل، وظهرت الجريمة للناس دون أن يُعرف للشهيد الراحل قاتل معروف، أما اليوم فإن لجنة تؤلف من بعض الضباط لتقتل في وضح النهار ستة من خيار المسلمين، دون أن يجرؤ أحد على اعتراض...
إن الرعب ألجَمَ الألسنة! أين الذين كانوا يرجمون النحاس باشا بالبيض الفاسد؟
إن الأستاذ العقاد هاجم الملك في روعة سلطانه فدخل السجن بضعة شهور، تعلّم خلالها اللغة الألمانية!
كنتم تضحكون مني وأنا أتحمس للحريات وأركانها... هل عرفتم الآن؟ وتذكرت جدالاً دار في المركز العام للإخوان المسلمين، يوم كنت عضواً في الجماعة، فقد كان معروضاً علينا أن نوافق على إلغاء دستور 1923، ورأى الأستاذ عبد القادر عودة –وكان رئيس الجلسة- أن هناك تردُّداً، وسمع من يقول له: كيف سنُحكَم في غيبة الدستور؟ فقال رحمه الله متعجباً: كيف سنحكَم؟ ثم ارتسمت على فهم ابتسامة عريضة: إنكم أنتم الذين ستحكمون! أنتم أيها الإخوان!
إنني والأستاذ عبد القادر صديقان متحابان، ولا أدري أينا أكبر سذاجة من الآخر؟ كلانا مشهور بأنه لا يصلح في ميدان السياسة...
الرجل الوحيد الذي قاوم القرار ورفضه، هو الأستاذ أحمد عبد العزيز جلال –الذي فُصل معي- في حركة إبعادنا عن الجماعة! كان –أطال الله بقاءه- أبعدنا نظراً...
ونعود إلى وزارتنا التي تضأل وتنكمش، كان منصب مدير المساجد خالياً، فكنت أقوم بأعماله –بصفتي وكيلاً- حتى يجيء من يحتله، وذات يوم عرفنا أن القائمقام أنور السادات نفسه، فاستغربت لأن المسجد يتبع الجمعية الشرعية، وللقوم تقاليد معينة في زيّ الخطيب...
وفيما أنا أفكر دخل السيد أنور، مرتدياً عباءة عربية، وعلى رأسه عمامة لها ذنب يغطي قفاه، كأنه من رجال الجمعية القدامى!
وتأملت وجهه فتذكرت التعايشي*، خليفة المهدي السوداني المعروف...
كان في سمرته وسمته الديني شيئاً عجباً...
وألقى الخطبة باللغة العامية حيناً، وبالعربية المشوَّهة حينا، ثم انتهي منها وتقدم للصلاة ونحن خلفه، قرأ في الركعة الأولى سورة الماعون، فاضطرب، وقدم وأخر، ثم ختمها على أي نحو! ولطف الله في الركعة الثانية، وسلّم من الصلاة، ونظر إلينا من عَلٍ، وكأنه يقول: ما أنتم؟ إذا وُجدْتُ بطل وجودكم!
ولم أكن أعرف الرجل من قبل، مبلغ ما أسمع عنه أن الأستاذ حسن البنا، كان يرسل إلى بيته بعض المساعدات عندما يقع في ورطة، لكنه الآن –فيما أحسست- يجمع بين الكبر والجهل!
وهمست إلى صديق معي: إن الخطأ في العبادات، أو الهزل في أدائها حسابه عند الله...
إن الذي أخشاه أن تعالج أمور الأمة المدنية والعسكرية بالادِّعاء والجهالة معاً، وقد كن نحفظ قديماً:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولَّتْ فبالأشرار تنقاد
إن وظيفة المسجد في المجتمع الإسلامي عظيمة الخطر! إنه صانع الفكر والضمير، ومطهِّر البدن، ومنظم الصفوف، وصائغ العلاقات الإنسانية المشربة بالحب والإخاء...
وقد اجتهدنا –أنا وصديقي الشيخ سيد سابق- في ربط الناس بالمسجد، وإحسان التوجيهات الثقافية التي تصدر عنه.
وكان من بين المقترحات التي نفذناها، إنشاء جمعية أهلية لكل مسجد تتعاون مع الإمام في تحسين أدائه المادي والروحي...! فاتهمنا الأفَّاكون أننا نحاول إعادة الإخوان المسلمين...!
فحولنا اسم "الجمعية" إلى "مجلس المسجد"، على غرار مجالس الآباء التي أُنشئت في مدارس وزارة التربية والتعليم، كما وضعنا مناهج وكتباً يدرسها الإمام طوال الأسبوع، وكراسات للتحضير، تُدوَّن فيها المادة العلمية المقروءة أو المخطوبة...
بيد أن الأمور كانت تسير إلى وجهة أخرى...!
وظهر ذلك بوضوح لما تولّى الوزارة السيد حسين الشافعي، وهو –فيما أعلم- رجل مسلم، نقيّ اليد، عفُّ اللسان، محبُّ لدينه!
لكنه كان يومئذ من رجال الثورة السائرين وراء جمال عبد الناصر،... فتبنَّى فكرة غريبة، أن توكل المساجد إلى جمعيات شعبية تديرها، وتُسأل عنها، وتمنحها الوزارة الإعانة الكافية، وتكون هذه الجمعيات تحت رقابة وزارة الشؤون الاجتماعية!
وسألت: لم ذلك؟ قيل: هذا أفضل! سألت: هل سيصنع هذا بالمدار التي تتبع وزارة التربية والتعليم؟ قيل: لا...! فأدركت أن المقصود جعل الدولة علمانية، لا صلة لها مباشرة بالدين...!
وقمنا بحركة هائلة شملت المساجد في القطر كله، وقابلني مندوب الأهرام، الأستاذ محمود الكولّي، وقال لي، إنه علم أن هذا هو النظام المتبع في يوغسلافيا!
وصدر ضد هذا المقترح بيان شديد الغضب من اتحاد الأئمة في الإسكندرية، وشاء الله أن يوضع المشروع على الرفّ، لأسباب نجهلها...!
الحق أن الانقلاب الناصري رسمه الذين نفذوا الانقلاب الكماليّ في تركيا، مع تغيير في العناوين والأساليب، يتفق مع أحوال مصر وطبيعة شعبها...
وقد ذكرت في كتابي كفاح دين أن الطيار عبد اللطيف بغدادي، هدم قريباً من عشرين مسجداً في جراحة لتجميل القاهرة! ترى؛ لو كانت هذه معابد يهودية، أكان يفعل ذلك؟ إنها المؤامرة على دين غظَّ حرّاسه في نوم عميق...!
قررت أن أتفرد بالعمل للدعوة، على النحو الذي أختار، وبالطريقة التي أُحسن، وأمامي ميدانان فسيحان: ميدان التأليف، وقد وضع الله لي القبول فيه، وميدان المساجد، وأنا قادر على إلقاء الدروس والخطب، وعلى توجيه ألوف الأئمة إلى الغاية الأرشد، والنهج الأمثل...
غير أن العقبات التي بُعثرت أمامي كانت كثيرة، وخُيّل غليَّ أن الخدمة الصحيحة للإسلام عملٌ يبعث على التهمة، إن لم يكن جريمة تقذف في السجون...!
والغريب أن البيئات الدينية تنظر إلى الدعاة بجفاء، وترى أجهزة الدعوة كياناً ملصقاً بها، لا يقبل إلا على كره، كذلك الحال في الجامع الأزهر، ووزارة الأوقاف جميعاً...
وقد يكون سلوك بعض الدعاة علة هذا النفور، بيد أني بعد تأمل طويل وجدت أن الضيق بالإسلام نفسه من وراء هذا الصدود، ينضمّ إليه إيثار السلامة بالبعد عن مجالات النصيحة، وغلبة الاحتراف على عبيد الحياة، وشيوع القصور العلمي بين جمهرة من "رجال الدين" كما يُسمَّون!
فالداعي يعرض عقله وأدبه، وقد قيل لعبد الملك بن مروان: شبت يا أمير المؤمنين! فقال: شيبني صعود المنابر وتوقف اللحن، فإذا لم يكن لدى امرئ علم يعرضه، أو أدب ينطقه فلم يصعد المنابر؟ إنه سيتراجع، ثم يقول: هذه أعمال تافهة!
إنها عُقدة الوضاعة عند التافهين!
ومذ عملت في السلك الإداري وأنا أرفض الاكتفاء به، وأركض ركضاً إلى المساجد والأندية والكليات، أتحدث عن الإسلام، أذود عنه الهاجمين، وأكشف كامنه للمتوسمين، وأتعرض للمدح والقدح والتكريم والإهانة...
كنت أول موظف كبير يدخل الديوان، أستفتح عملي بقراءة جزء من القرآن على أحد شيوخ المقارئ، ثم أنظر في الملفات المعدَّة، وأتتبع مصالح الناس بالإنجاز، وأغشى عشرات المكاتب شفاء لهذا، أو إعانة لذاك، كنت كما وصف المأمون نفسه: "حُبِّبَ إليَّ فعل الخير، حتى ظننت أن لا أُوجر عليه"!
وقد أحصى مكتب الاستعلامات في الوزارة من يطلبون الدخول إليها، فوجد ثلاثة أرباعهم يذكرون اسمي، ولما كُلِّمتُ في ذلك قلت: معنى موظف عام أنه خادم للجماهير حقيقة لا دعوى...
إن الذين سيتكبرون عن ذلك إنما يأكلون السحت...!
وبديهي أن يكون الإخوان المسلمون –فرادى- أول من يسعهم هذا النشاط، طالما هَشَشتُ للقائهم، وطمأنت قَلَقهم، وأريته من نفسي الاستعداد التام لعونه!
لقد هاجمت الإخوان وهاجموني يوم فصلتُ، وكان تظالماً وخيم العقبى على مستقبل الجماعة، يغفر الله لنا فيه ما كان مني ومنهم!
فلما حَلَّت الدولة الجماعة للمرَّة الثانية، وأحسست أن ذلك لا يستفيد منه إلا اليهودية والنصرانية، سكتُّ مبتئساَ!
فلما بدأ التعذيب والتقتيل انضممتُ بقلبي وكياني كله إلى المستضعفين في الأرض، وبكيت لهم ما يلقون! وماذا عساي أفعل؟
إن المأساة التي يجب كشفها أن الإسلام نفسه يُضرب، باسم ضرب الإخوان...!
لو أن واحداً أو أكثر يعاقبون لأخطائهم باسم الدين، لقلنا: العدل يأخذ مجراه...!
أما أن تصادر نصوص، وتطمس تعاليم، ويلغى نصف الكتاب والسنة، لأن جماعة ما أخطأت، فهذا هو العجب...
ما معنى أن يعلن رئيس دولة إعجابه بشخص مرتدّ كمصطفى كمال، وأن يأمر بإصدار طوابع بريد لتخليد ذكراه؟ كيف تخلد ذكرى فصل الدين عن الدولة، وجعل الحكم عَلمانيا؟ كيف تخلد ذكرى ضرب الإسلام، وإسقاط رايته وخلافته؟
والأعجب أن يصمت علماء السوء فلا يقولوا كلمة أبداً في هذا الفسوق، ثم تراهم بعد يتسابقون في هجاء الإخوان لأنهم خرجوا على الحاكم؟ هل ولاؤكم أنتم له هو الإيمان؟
قال لي صديق يشتغل في الإعلام: طلبنا من فلان أن يضع لنا جملة أحاديث في تحديد النسل. قال: تريدون أن أكتب بالتحليل أم بالتحريم؟ فقال له المجيب ساخراً: خمسة أحاديث بالحلّ، وخمسة أخرى بالحرمة!
قلت:هذا الشيخ يصلح مفتيا للجمهورية، أو وزيراً للأوقاف! قال: أو شيخاً للأزهر؟ قلت بعد تريُّث: أو شيخاً للأزهر...!
إن أولئك الثلاثة في إبّان حكم العسكر حمَّلوا الإسلام ما لا يطيق، لا في مصر وحدها، بل في أقطار أخرى! إنهم ونظرائهم سخرا الفقه لهوى الرجال والنساء، واخترعوا أحكاما ما أنـزل الله بها من سلطان...
وما كسبوا إلا غضب الله سبحانه، وكراهية الصالحين من عباده، وازدراء الجماهير المغلوبة على أمرها...
في هؤلاء يقول أحمد محرم:
أرى علماء الدين لا يحفظونه ولا يرفعون اليوم رايته العليا...
هم اتخذوا ما أحرزوا من علومه سبيلا إلى ما يبتغون من الدنيا
إذا ما أتاهم جاهل بضلالة! أتَوه بألفي عالم يحمل الفُتيا
في عصرنا هذا أقامت اليهودية جولة لها على أنقاضنا؛ وأقامت الصليبية استعماراً طحن معالمنا وتراثنا، واصطنع نوعاً من الحكم في بلاد الإسلام ليس لله ولاؤه، ولا للإسلام انتماؤه...
فإذا تمرَد أهل الإيمان، وهاجت غيرتهم على دينهم، قيل لهم: إن أحسن الحاكم فله الشكر وإن أساء فعلينا الصبر! وخير لنا أن نعتزل ونعض بأصل شجرة فلا نصنع شيئا!...!
أين فريضة النصح؟ أين فريضة الأمر والنهي؟
أين فرائض الجهاد بأنواعه: البدنية، والمالية، والبيانية؟ اختفي هذا كله ليقول عالم ينتسب إلى الأزهر في حاكم من أسوأ الحكام سيرة وأبينهم خيانة: لو استطعت لجعلته في مستوى من لا يُسأل عما يفعل!
إن الذين اتهموا الدين بأنه مخدر للشعوب، إنما استمدوا هذه التهمة من أقوال أولئك "العلماء" المفرطين...
تجنَّبت من شبابي الباكر هذه القافلة الخائنة، وقلت: الوفاء لله ورسوله أبقى وأجدى!
وبعد فترة قليلة من قيام ثورة 23 يوليه 1952 –وهي في حقيقتها انقلاب عسكري، دُبِّر بعناية لغايات معينة- ألفت عدة كتب، مرَّ بعضها بسهولة، واعترضت وزارة الداخلية على كتابي الاستعمار أحقاد وأطماع وكفاح دين.
فأما الأول فقد رفضت النيابة الاعتراض، تركته ينشر، وأما الثاني فقد أقرت عدم النشر، ورفعت الأمر للقضاء، كي يبتّ في القضية في جلسة أحضرها وأناقشُ فيها...
وطُلبت إلى المحكمة، فذهبت وأنا شاعر بالحرج، لأن مصادرة كتاب لي شيء ثقيل الوطأة على نفسي، والخسارة الأدبية والمادية شديدة، ثم إن عملي في الوزارة أحاطت به الظنون، والأعداء متربصون، وسيقال: استغلّ منصبه الديني في تعكير الأمن العام!
ووقفت أمام المحكمة، وكان رئيسها مستشاراً نـزيهاً شجاعاً:
قال: أنت مؤلف هذا الكتاب كفاح دين؟
قلت: نعم..
- ألا ترى أن فيه فصولاً وبحوثاً مثيرة؟ قلت: المهم أن تستيقن المحكمة من صدق ما قيل، فإذا كان ما أثبته حقاً فلا أُلام على تقريره!
قد يكون الكلام حقاً ولكن ليس كل ما يعلم يقال، فربما أهاج ذكره الخواطر، ونحن بحاجة إلى الهدوء!
- قلت: أنا أحصيت أسماء المساجد التي هدمت في القاهرة وحدها كي أوقف هذا التخريب العمد لبيوت الله، وذكرت أن في مصر الجديدة وحدها 34 كنيسة و7 مساجد فقط، مع أن نسبة المسلمين هائلة، ونسبة الأقباط دون العشر، فهل أن أخطأت في ذكر الأعداد؟ إنني استقيت معلوماتي من بلدية القاهرة 1957.
قال الأستاذ المستشار: ليس لديَّ ما يخطّئ هذه الأعداد التي ذكرتها، وإنما المخوف من طريقة العرض فهي تبعث على البلبلة...!
- قلت: سيدي المستشار، قد يسير رجل في الطريق فيرى لصاً يعالج باب دكان يريد كسره ليسرقه، فيقول في نفسه لو تعرضت له ربما أصابني، فيدعه ويمضي لشانه...! قد يعذر على نحو ما هذا الجبان! لكن ما الرأي إذا كان الفارُّ من وجه اللص واحداً من رجال الشرطة؟ إنه يعد خائناً يقيناً، لأن مهمته حراسة الأمن!
- قال الأستاذ المستشار: هذا صحيح!
قلت: فأنا -في وظيفتي الرَّسمية- حارس للإيمان، سأكون خائناً إذا سكتّ عن هدم المساجد، أو غلبة غيرها عليها!
شعرت بأن الأستاذ العادل رئيس المحكمة قد تغيَّر وجهه، وأخذت صورة من التفكير الجاد، والتجرُّد لله تظهر على ملامحه، وأخذ يناقشني بشيء من الحنوّ والهدوء، ويقلب صفحات الكتاب، ويسألني عن بعض الحقائق العلمية، ثم أصدر حكمه برفض المصادرة، وترك الكتاب للتداول الحرّ!
صفّق قلبي بين جوانحي، وخرجت من الجلسة شاكراً، وإذا رجال الشرطة يلقونني ببرود أقرب إلى السخرية! إن إجراءات الداخلية لا توقفها أحكام القضاء، فقد تفرج المحكمة عن شخص وتعتقله الداخلية لأسباب لديها...
وصودر الكتاب فلم يفرج عنه إلا بعد أن مات جمال عبد الناصر فاتح باب الحرية، الرئيس الكبير القلب.

--منهجي في الدعوة --
أرى أن ألقي ضوءاً على طريقتي في الدعوة، ووسائلي لدعم الإيمان والمنهج الإسلامي
إنني أعتقد أن الدين هو الفطرة السليمة، قبل أن تشوهها تقاليد سيئة وأفكار سقيمة، وأن أنصبة الناس من سلامة الفطرة شديدة التفاوت، وأن هذه الأنصبة موزعة على خلق الله حيث كانوا، ومن ثم فأنا أرقب ما يصدر عن الناس من أقوال وأفعال، وأزنه بمعيار الفطرة المقررة عندي، فما كان خيراً قبلته، وما كان شراً رفضته...
وفي حالتيْ الرفض والقبول فأنا أكمل للناس ما نقصهم، أو أؤكد ما لديهم، من التراث الذي خصّني الله به! أعني من الإسلام الذي هداني الله إليه، إذ أوجدني في بيئة يسَّرته لي، ومكَّنتني منه.
إن الأديان أقدار! وإذا أنعم الله عليّ بالإسلام فلأقدِّر هذه النعمة، وليكن تقديري لها أن أعامل من حموها بشيء من الوعي للظروف التي أحاطت بهم...
والواقع أني أكره العنف والتحامل على الآخرين، وبقدر ذلك أكره العدوان على ديني، الافتيات على حقي...!
من أجل ذلك لم أتهيب أي مجتمع أدعو فيه، ولم أستوحش من الأسماء السائدة أو العناوين الشائعة للمذاهب الاجتماعية والاقتصادية المختلفة، بل من نقطة التلاقي بين الفطرة التي عرفتُها بالوحي، وعرفها غيري بالتجربة أو بالفلسفة أو بالعلم، من هذه النقطة أبدأ العمل لديني وأنا متمكن ومستريح...!
نعم قبلت ما رفضه غيري من كلمات الديمقراطية والاشتراكية مثلاً، وعن طريق الكراهية الفطرية للاستبداد السياسي أو الجشع الرأسمالي؛ أخذت أعرض من ديني النواحي المقابلة أو المماثلة، فإذا نجحت في إبراز الحقيقة الإسلامية –ويجب أن أنجح وإلا كنت داعياً فاشلا- انتقلت بالفرد الذي أحدثه أو المجتمع الذي أخاطبه، إلى آفاق أوسع ونواح تمسُّ العقيدة والعبادة وسائر شعبَ الإيمان.
بل إنني دخلت في ميدان "العروبة" بهذه الخطة، وقلت لأولئك الناس: تريدون بعثاً عربياً؟ وأنا كذلك أريد بعثاً عربياً!
هل رفع شأن العرب رجل أعظم من محمد؟ هل خلّد لغتهم إلا القرآن؟ هل دخل بهم في التاريخ إلا الإسلام؟ هل كفكف عصبياتهم وأمات حزازاتهم إلا هذا الدين؟ فأذهب فرقتهم، ورفع رايتهم، ونصرهم على عدوهم، وحمَّلهم رسالة خالدة، هي الرحمة للعالمين...!
ما هي الرسالة التي يحملها العرب إذا تركوا الإسلام؟
تقولون: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟ ما هي هذه الرسالة؟ إن لم تكن الإسلام؟ ثم إن الإسلام جعل العربي النصراني مضمون البر والعدل، موفور الكرامة والذمة؛ وما أظن أحداً من العرب الذين يحترمون جنسهم يكره محمداً أو يَوَدّ العَنَتَ لقومه والهوان لرسالته...!
الذي وجدته في أدعياء العروبة أنهم يكرهون اللغة العربية، والتراث العربي، التاريخ العربي، حتى لقد استيقنت أنهم سماسرة الاستعمار خبيث، يريد القضاء على العرب باسم "العروبة"...!
هناك ناس من الدعاة يضيقون أشد الضيق بالعناوين المحدَثة، ويشمئزون من ديمقراطية أو اشتراكية، أو ما شابه ذلك!
وهؤلاء الناس نوعان: نوع يريد الإسلام عنواناً فجاً على رُكام من التعاليم المدَوَّنة بلغة العصر المملوكي، أو لتركي، ولا يتحرك قَيْد أنملة لتوضيح يطلبه العصر، ولا يقبل مقترحات جديدة للوسائل التي تخدم أهدافنا وشرائعنا... إن هذا النوع يشبه من يريد المقاتلة بالخيل في عصر التفجير الذرّ معتمداً على نصوص لم يفهمها...
وأنا أرفض التعاون مع هذا النوع، ولا أكترث بإنكاره عليّ، أو تبرُّمه بي...!
وهناك نوع غيور على الإسلام شكلاً وموضوعاً يقول:إن العناوين المجلوبة من الخارج قد تقدح في الحقائق الجليلة التي ورثناها، ومن الممكن أن ننظر إلى أحسن ما لدى الآخرين ملاءمة للفطرة، وموافقة للوحي، فنأخذه ليكون –بعد تهذيبه- من بين الوسائل التي نخدم بها قيمنا المقررة!
إن الخلاف مع هذا النوع شكلي، وإنني لأغار على ديني كما يغارون، وإنما لأريد ألا أُلدغ من جحر مرتين! فكم من متدينين يتصورون الخلافة فرعونية جديدة تحكم دون معقب، أو قارونية جديدة تحب المال حباً جماً، وتريقه في أهوائها دون رقيب!

--مع الاتحاد الاشتراكي --
على أية حال، إننا نحن المسلمين نتبع ديناً واضح المحجة، منير النهج، وقد أبحث لنفسي، وأنا في مصر، أن أدخل فيما يسمَّى الاتحاد الاشتراكي، وقررت عن طريقه أن أحاول خدمة الإسلام ونشر الدعوة...
لقد كان أستاذي حسن البنا يقول: أنا لا أخاف العمل مع الشيطان، فلنُسِر معاً، وسنرى من يفرّ من صاحبه!
إنني سأدخل هذه الهيئة، وسأرى هل سأنتصر بالإسلام أم لا؟ وكان معي شيخ حَمَنُ الدين كثير الدعابة، نتعاون معاً على صنع النكتة، إذا حَزَ بنا أمر، أو أردنا التنفيس عن متاعبنا، قال لي يوما: أجز هذا البيت:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما يروح إلى اتحاد الشر كفينا!
فقلت:
فيهتف للزعيم هتاف عبد يخاف السجن أو يخشى المنونا!
واستغرقنا في الضحك، ماذا نصنع؟ إن الفكاهة تريح الأعصاب أحياناً...
ودخلت الاتحاد الاشتراكي، وكانت تجربة شاقة، لا عهد لي بمثلها، فهناك لجنة أساسية ينتخب الجمهور أعضاءها بطريق القوائم في كل وزارة، أو حيّ، أو مصنع... إلخ؛ ثم يجتمع مندوبو اللجان الأساسية في كل قسم لينتخبوا لجنة القسم أو المركز، ثم يجتمع مندوبو المراكز أو الأقسام لينتخبوا لجنة المحافظة، ثم تجتمع لجان المحافظات لتختار ضعف الأعضاء المطلوبين للجنة المركزية، فيُختار نصفهم لعضوية اللجنة المركزية، ومن اللجنة المركزية تكون اللجنة التنفيذية التي تدير شؤون الدولة تقريباً، لأن الوزراء منها، أو خاضعون لها...
ومن السهل إدراك أن هذا التنظيم صورة لتنظيم الحزب الشيوعي في أي بلد اشتراكي، فالقمة تصنع القاعدة أكثر مما تصنع القاعدة القمة...!
وقد رأيت أني في المركز أشاهد أناساً لا أدري كيف نبتوا، فلا يكاد يعرفهم أحد! يمشون معنا ليصلوا بقدرة قادر إلى مستوى المحافظة، ثم يتم تصعيدهم إلى اللجنة المركزية، بطريق الاختيار الصريح من أعلى!
وشاء الله أن أصعد في هذه لدرجات مستوى بعد مستوى، حتى بلغت اللجنة المركزية، فاختار المسؤولون أسماء ارتضوها، ورُدَّ اسمي لأنه لا يوثق به! قلت: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون!
وأخذت أعمل مكاني، أحاول خدمة ديني... كان الجو موبوءاً، فالشيوعيون رتبوا صفوفهم لقيادة البلد، وغيرهم بين متملق يتسكع على أبواب الرؤساء، أو أناني لا تحركه إلا مآربه المكشوفة؛ وإذا جاء وقت صلاة فما يتحرك إلا قليل...
والفكر الإسلامي غريب، واتخاذه شعاراً أغرب، والقضايا تهبط من فوق لتلقى التأييد، والشيطان يذرع الساحة كلها جيئة وذهاباً...
وأذكر أننا في أحد المؤتمرات، سمعت المقرر يعلن باسمنا أننا قررنا تعديل قوانين الأحوال الشخصية!
فنهضت من مكاني صائحاً: هذا غير صحيح، لم نقرر شيئاً من هذا، هذا افتعال لا أصل له...
وتواثب الحراس من حولي يشدونني لأجلس، ولما لم يقم أحد معي يرفض هذا الزيف؛ صحت:أنا منسحب من المؤتمر، وخرجت عائداً إلى بيتي...!
ويظهر أن هذا الموقف كان له بعض الأثر، فقد أعيد تنظيم لجنة الأسرة، ووضعت فيها، وكان معنا الدكتور محمد عبد الله ماضي وكيل الأزهر يوم ذاك، وأمكن حجز الشر إلى حين...
لقد لامني بعض الصالحين على قبول عضوية الاتحاد الاشتراكي! والعمل في هذا الوسط الرديء، فقلت له: أنبقى مكتوفي الأيدي والغير يصنع القرارات، ويفاجئنا بما يهوى؟ إن السلبية لا تفيد!
قال: وماذا صنعت أنت؟ قلت: أنا وحدي لا أعني، إن الجبن في هذه التنظيمات هو سيد الأخلاق! عندما وقفت أعترض المقرر، كان جاري الأيمن وكيل وزارة، والجار الأيسر من كبار الشيوخ في الأزهر، ومع ذلك فإن كليهما فزع، وكأنه لعن الظروف التي قاربته مني، إنهما يفقدان شجاعة الإيمان، وقد فهمت لماذا كان حسن البنا حريصاً على"التربية الدينية الصحيحة"؟
وذكرت أني مسؤول كبير في أجهزة الدعوة، وأني من بضع سنين أخطب الجمعة في الأزهر، فقررت مضاعفة الجهد، وفتق الحيل لعلم إسلامي مثمر، وقلت: تستعد شعبياً لعودة أشمل وأسرع إلى الإسلام...
وعرفت أن مؤتمراً كبيراً سوف ينعقد لمراجعة إقرار "الميثاق الوطني" الذي ستمضي البلاد على ضوئه في السنوات القادمة...
إنني هنا أروي قصة حياتي، ولست أؤرخ للأحداث الهائلة التي تعرضت لها مصر، عندما هاجمتها إسرائيل وفرنسا وإنجلترا، ولا مولد الاتحاد بين مصر وسوريا ووفاة هذا الاتحاد، ولا الأهوال التي غَشِيَتْ المحبوسين والمعتقلين من جماعة الإخوان المسلمين، ولا الهمَّات التي صدّعت الكيان الإسلامي في القاهرة –العاصمة الثقافية للمسلمين- وأخّرت، ولا أقول، أماتت الدور التاريخي الذي تقوم به في خدمة الإسلام ولمّ فلوله...
إنني أمُرّ بهذه الأحداث كما يمر راكب القطار بمعالم الطريق، واقف وقفة طويلة عندما يكون الحديث ذا شجون.
انعقد المؤتمر الكبير، وافتتحه الرئيس جمال عبد الناصر، وكان يعاونه السيد كمال الدين حسني، وينوب عنه في غيابه، وكان الأمين العام السيد أنور السادات.
وبعد الأعمال التمهيدية أخذ الأعضاء يسجلون أسماءهم طالبين التحدث إلى الحضور ليشرحوا وجهات نظرهم، وكنت من أوائل الذين طلبوا الكلمة، وقد حددت موضوعي بأناة، وقررت البعد عن التحدِّي والإسهاب...!
قلت: "أيها الأخوة، إن الشعار الذي رفعناه هو تحرير الوطن والمواطن، فهل يتحقق هذا الشعار إذا أخرجنا الإنجليز من أرضنا وبقيت قوانينهم، وتقاليدهم، ولغتهم تحتلّ مجتمعنا وتسيّره؟ فيم كان الجهاد إذن؟ إذا كانت تبعيَّتُنا لهم ظاهرة، وولاؤنا لمخالَّفاتهم قائما؟
"إن التحرير الحق هو أن نحيي تراثنا، ونقدِّم لغتنا وأدبنا، وننفِّذ شريعتنا،وننبذ هذه القوانين التي وضعها المستعمرون لنا، وسلخونا بها عن ديننا وتاريخنا!
"ولننظر إلى مصلحتنا الاجتماعية موازنين بين الربح والخسارة! آلاف من جرائم القتل تقع، والذين يعاقبون بالإعدام نفر قليل، ويحكم على الأكثرين بالسجن، ثم تمر الأعوام، ويخرج السجين القاتل، ويرى الإنسان قاتل أبيه أو أخيه في الطريق فيقتله أخذً بالثأر!
"أيكفي في علاج هذه الحال تكليف بعض الوعاظ بمحاربة عادة الأخذ بالثأر؟ ما الذي يمنع من القصاص الذي كتبه الله لصيانة الحياة وتحقيق العدالة؟ فنرضى ربنا، ونحصِّن مجتمعنا...!
"وإني واحد من الذين يأبَون قبل جائع يسرق ليقوت نفسه أو أهله، والشريعة يستحيل أن تقطع هؤلاء البائسين؛ لكن إذا وجدنا من يسرق مثنى وثلاث ورباع ليعربد، وينفق عن سفه ذات اليمين وذات الشمال، كيف نتركه؟ لماذا لا نحمي الكسب الحلال من عدوان أولئك المجرمين؟ إن يداً واحدة تقطع ستقضي على العصابات التي احترفت اللصوصية!"
ومضيت في شرح الحقائق الإسلامية الضائعة، مطالباً بعودة المجتمع إليها... وبعد ربع ساعة تكلمت عن "الملابس" في أقل من ثلاث دقائق مطالباً بتوحيد الزيِّ للرجال، وتوحيده كذلك للنساء خصوصاً الطالبات...
ووضعتُ مواصفات سهلة: أن يكون رخيص السعر، وأن يكون من الإنتاج الوطني، وأن يلبسه الرئيس والوزراء، ويعد اللباس الرسمي في كل ديوان أو حفل!
وبالنسبة للنساء يكون ساتراً للجسم كله ما عدا الوجه والكفين، قلت: ولعل أقرب مثل له زيُّ الراهبات المسيحيات أو الفلاحات المصريات...!
وكنت في حديثي سهل العبارة، متَودِّداً إلى الجمع الذي يزيد على الأقل، وكنت قبل الحديث قد دعوت الله أن يلهمني الرشد، وأن يفتح لي القلوب...!
ويظهر أن الله استجاب لي، فإن كلمتي –وإن عدّها البعض شرحاً ماكراً لدعوة الإخوان المسلمين- بلغت أعماق النفوس، ولقيت ترحاباً واضحاً وتصفيقاً شديداً...
وكان بين أعضاء المؤتمر سبعون شيوعياً، أفزعهم هذا الجو الإسلامي، وزاد من ضيقهم أن جماعات ضخمة كانت تردي الصلوات في الأوقات، وتتحدث عن ضرورة التمسك بالإسلام.
وقد اتفقت كلمتهم على توجيه ضربة سيئة لي توقف نشاطي، فأوعزوا إلى الرسام الهزلي صلاح جاهين ألا يدع الكلمة التي ألقيتها تمرّ دون تعليق ساخر يفقدها قيمتها!
وظهرت صحيفة الأهرام في اليوم التالي، وقد صورتني عاري الرأس ساقط العمامة على الأرض، لأن قوانين الجاذبية شدّتها، وفق التطور العلميّ!
ونظرت إلى الصورة وقد تملكني الغضب، فإن العمامة ليست لباساً خاصاً بي، وإنما هي رمز العلماء المسلمين! والرسام الشيوعي يريد الإيحاء بأن القوانين العلمية ستعصف بالإسلام...!
ورئيس تحرير الأهرام، فيما علمت، له دور في وضع الميثاق، وصلت الميثاق بالإسلام خافية أو حائلة...
قلت في نفسي: بدأ الهجوم! إنه بدأ في الأهرام واستمر في الكلمات التي تتابعت بالردّ عليّ من شيوعيين آخرين داخل المؤتمر نفسه...
وطلبت التعقيب على ما وجِّه إليَّ من تساؤلات وتهم، وأُعطيتُ الكلمة، فقسمتها شطرين...
"الأول: هل لأعضاء المؤتمر حرية الكلام دون أن تهينهم الصحف أم لا...؟ إن كان كل عضو هنا له حق عرض رأيه، فهل هذا الحق مصون، أم أنه ما يكاد يتكلم حتى يناوشه النباح من هنا ومن هناك؟
إنني أترك لأعضاء المؤتمر أن يتخذوا قراراهم في هذا الموضوع المهم...
الثاني: لقد عرضت حقائق إسلامية كثيرة، عجز أعداء الإسلام عن مناقشتها، وأخذوا يوجهون سهامهم إلى قضية الملابس وحدها، وإلى ملابس النساء بالذات! فهل المطالبة بالاحتشام جريمة أو خروج عن القانون؟"
ثم شرحت موقف الإسلام من المرأة، وبيّنت أخطار فصل قضية المرأة عن الدين، ثم حملت حملة شعواء على الإباحيين وفاقدي الشعور الديني في بلادنا...
واقتربت مرة أخرى من نفوس الأعضاء الذين تضاعف حماسهم للإسلام، وظهر أن اتجاههم إلى تحكيمه قويّ!
ولا بد أن أقول هنا: إني وجدت تجاوباً وترحاباً من السيد كمال الدين حسني، على حين كان غيره من المسؤولين يكاد يتميز من الغيظ...!
لكني طالعت الصحف في اليوم التالي، فوجدت عدوى الضلال قد انتقلت إلى بقية الجرائد والمجلات، وأن الحملة عليّ اتسمت بالحدة والقسوة!
وتحرك الشيوعيون داخل المؤتمر مرة أخرى، وسمعت هجاء كثيراً، وتكلمت امرأة كانت وزيرة للشؤون الاجتماعية فوصفتني بما أضحكني! ولم أتابعها لأني وجدتُها تلغو بما لا يساوي سماعه!
إن حدَّة عاطفتي تسيء إليّ كثيراً، وقد حزنت لأني أصبحت مادة لكتاب تافهين، وتيقظت في دمي غرائز القتال، فشرعت أهاجم بضراوة، وأتحدث عن كبار وصغار باحتقار، وأرسل إليّ بعض المسؤولين يطلب مني التحفُّظ...
وشاء الله أن يشعر أعضاء المؤتمر بأنهم أهينوا في شخصي، فكتبوا طلباً للرئيس عبد الناصر أن أُعطي الكلمة مرة ثالثة لأُسكت هذا الضجيج...
حمل الطلب بعض الأعضاء من الصعيد، ومرّوا به بين الصفوف ليأخذوا إمضاء أكبر عدد من الحضور، فإذا المئات يوافقون، وأحس الرئيس جمال عبد الناصر بالحركة، وكان متيقظاً لكل ما يحدث، وجاءه الطلب، ولم أعرف الرأي في قبوله!
وأخذ الأعضاء استراحة نحو نصف ساعة، ثم عادوا إلى مقاعدهم، وكنت يائساً من أن أتكلم مرة ثالثة، فاخترت أن أجلس في مؤخرة الصفوف...
وعندما التأم شمل الجلسة لاحظت أن الرئيس انصرف!
كنت أسترجع الماضي القريب! إنه من بضع سنين فقط كان رؤساء التحرير الذين سخروا صحفهم لشتمي من رجال القصر الملكي، وبغتة ركبوا عربة هذا الانقلاب المشؤوم، وزعموا أنفسهم طلائع الحرية...!
وافتتح أنور السادات الجلسة، وقال: هناك طلب وقعه كثيرون بأن يعود الشيخ الغزالي إلى المنصة، فتعالى التصفيق، وغلبت صيحات الموافقة كل شيء! فقال السادات في هدوء: ليحضر العضو المحترم، وليتكلم...!
كنت بعيداً لأني في آخر صف، ولما دوّى التصفيق تذكرت كلمة لأبي يوسف الفقيه الحنفي: أيها الناس، أريدوا الله بعملكم، فوالله ما أردتُ غير الله بعمل إلا خُذلت، فطأطأتُ رأسي، وتذكرت ربي، وقلت: أجعلْتُ الوقفة له، فما أحب الخذلان، وإذا غرَّني هذا التصفيق المتتابع حَبَط عملي، حتى لو نجحت في كلمتي وأعجبت هؤلاء الأخوة، فلا قيمة لي بعد أن خسرت وجه الله...!
وبدأت الحديث مع إخواني قائلاً: أهي جريمة لا تغتفر أن أقف إلى جانب الإسلام، وأن أشرح بعض تعاليمه؟ هل الحرية تكفَل لكل من أراد نصرة مبدأ ما؛ فإذا انتهي الأمر إلى الإسلام فلا حرية...!
"أين كانت أصوات الشاغبين عليّ وأنا أحامي عن المستضعفين، أنشدُ لهم الكرامة، وعن الفقراء أتطلّب له من القوت، أين كان هؤلاء يوم ألّفت كتابي الإسلام والاستبداد السياسي، في ظل أزمات عصيبة أوقعها القصر بالشعب...!
إنني لم أسمع لواحد من هؤلاء الشجعان صوتا، ولم أر لهم أثراً...!
لقد اعتقلت عاماً في الطور وهم يلهون ويلعبون!
الآن نتحدث عن الإسلام يستباح بهذا الأسلوب؟
يا عجباً، إنه عندما كان الملك فاروق يبحث عن الشهوات كان أولئك المهاجمون لي من رجال الصحافة يشتغلون قوّادين للملك الماجن!"
وانطلقت بعد ذلك أتناول موضوع النـزاع، ولا أدري ما قلت بدقة... وإنما الذي أذكره أن الرئيس السادات حاول ثنْيَ زمامي، وتذكيري بأني تجاوزت الوقت، فرفضت السماع له، وشفيت مما نالني ونال المؤمنين معي...
وفي اليوم التالي، وكان يوم جمعة، نشرت الأهرام عشر صور هزلية في صفحة كانت فيما يبدو مخصصة للنيل مني، ولكني هذه المرة لم أكترث لهذا الهزل، ولم أعتبر نفسي مهزوما...
وألقيتُ خطبة الجمعة في الأزهر مختاراً لها موضوعاً أبعد ما يكون عن قضية الساعة، وأحسست أن الزحام شديد جداً، وبعد الصلاة سكنت مكاني دقيقة واحدة، انفجر المسجد المكتظ بعدها بصياح اختلط فيه التكبير بالبكاء وبالهتاف، ورأيتني محمولاً فوق الرؤوس، لا أعرف ما أصنع...!
وحاولت الإمساك بأي عمود يلقاني من أعمدة المسجد، وهيهات! فلما اقتربنا بعد لأي من الباب بذلت جهد اليأس في الإمساك به، وأعانني رجال الشرطة على النـزول بالأرض والاحتماء بإدارة الأزهر، وكان المصلون في المسجد يزيدون على عشرين ألفا، انضم إليهم مثلهم من مسجد الحسين والمساجد القريبة، وانطلقت المظاهرة إلى جريدة الأهرام لتحرقها، وكلما قاربت هدفها تضاعف عددها، ولكن رجال الشرطة استدعوا نجدات كثيفة لحماية الجريدة، فدارَ الجمهور حول نفسه في غضب رهيب، وقال كبير في الداخلية: لو كانت هذه المظاهرة منظمة أو مدبرة لأحرقت القاهرة...!
عندما أقبل صباح الغد علمنا أن المظاهرات لم تكن مقصورة على القاهرة وحدها، بل إن بعض عواصم الأقاليم تحركت فيها الجماهير مناصرة للإسلام، وناقمة على النيل من علمائه...
ولذلك قرأنا ونحن نضحك ما كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل يوم السبت، من أن الشيخ الغزالي سيَّر لفيفاً من تلامذته لتهاجم الأهرام!
إن الحشود التي سارت صوب الصحيفة المتجنّية، فوق المائة ألف، فهل أولئك جميعاً تلامذتي الذين أوعزت إليهم بما حدث؟
إن أمتنا تحب دينها، وتريد أن تحيا وتحكم وتوجَّه به وحده! وقد رَبَت ثقتنا في أنفسنا عندما استأنفنا جلسات المؤتمر، ولم نكترث لما كان يلوح على وجه جمال والسادات من ضيق مكتوم!
ولما تقرر تأليف لجنة لوضع التقرير المطلوب عن الميثاق المقترح، همستُ في أذن الشيخ سيد سابق أن العمل الحقيقي قد بدأن فإن المهم أن يوضع تقرير تبرز فيه الصبغة الإسلامية لمصر، ويخسر هذا التيار اليساري المنكور...
والواقع أن الجهاد المضني بذل في لجنة التقرير، واستمات فيه الشيخ سيد سابق، مع عدد من أولي الإخلاص والغيرة، وأمكنهم تقليم أظافر الشيوعيين، ووضع التقرير المطلوب...
ومن الإنصاف أن نوضح هنا أن عملنا كله كان سيذهب سدىً، لولا صلابة الرجل المؤمن الصبور كمال الدين حسني، فقد أبى المداهنة والعبث، ووفر الحرية كاملة للأعضاء، وهم لا يبغون بالإسلام بديلاً...
ولذلك انمحت الميوعة العقائدية التي تجعل الميثاق المقترح يصلح كما قلنا لدول أوربا الشرقية، ويجعل الشعب المصري مبتوت الصلة بدينه وشعائره...
وأثبتنا أننا على الإسلام نبيّن، ومنه نستمد، وجعلنا التقرير المحتفي بكتاب الله مهيمناً على ما سواه، ولا بد من طبعه مع الميثاق ليكون جزءاً متمماً له!
وقرء التقرير، ونال موافقة شبه إجماعية! ولم تكن هذه النتيجة متوقعة، ولم يرض عنها جمال عبد الناصر...!
وألحق أن الخصومة التي وقعت بين كمال الدين حسين وجمال عبد الناصر بدأت من ذلك اليوم، واتسعت الهوَّة على مرِّ الأيام، حتى أُبعد الرجل الذي استمسك بدينه، ودُمِّرت حياته المادية، وعاش بعيداً عن أسباب السلطة!
لو يجد جمال صعوبة في طيّ التقرير وإهمال إرادة المؤتمر، وفرض ما يريده هو على المصريين...!
أما أنور السادات فهو صوت سيده! كان أقلّ وأذلّ من أن ينأى عن هوى زعيمه قيد أنملة! بل كان معروفاً بأنه الرجل الذي يُسلّي ويُسرِّي، ويسارع في مرضاة سيده!
وعدت إلى عملي بوزارة الأوقاف، وقلبي مستريح لما بذلت، وإن كنت محزوناً لما تمّ!
شيء ثمين استفدته من هذه المعركة، أن الدعايات التي كانت يقوم بها بعض الإخوان ضدي توقفت، وخرست الألسنة التي استمرأت عرضي حيناً من الدهر...! ولا أكتم أني كنت أهتاج إذا سمعت من يقول: انضمّ إلى الحكومة أو باع دينه بعَرضٍ من الدنيا!
ولا أزال أرى أن معاصي القلوب تفتك بإيمان بعض المنتمين إلى الدين! وأن التماسهم للبرآء العيب أمر يبطل طاعتهم...!
وما أبرئ نفسي من التقصير، وإني لأعلم فقري المدقع إلى غفران الله، ولكني بعيد عما أشاعوه عني، وشاء الله في مواطن كثيرة أن يكشف كذبه من حيث لا أدري!
ولم يلحقني ضرٌّ عاجل من موقفي في المؤتمر، ويبدوا أن القوم أمكر من ذلك، فقد تربصوا بي عدة شهور، ثم جاء وزير هبط بي من مدير للمساجد إلى مفتش بها، أي رجع بي القهقري خمسة عشر عاماً في سلّم الوظائف، ونقلني من مكتبي الخاص إلى مكتب به بعض الموظفين والموظفات!
وأجدني هنا مسوقاً إلى ذكر رجل عسكريّ وَلِيَ وزارة الأوقاف، قبل هذه الأحداث بسنين، هو أحمد عبد الله طعيمة، لم أر مثله حباً في الخير، ورغبة في خدمة الإسلام، وحماساً في فتح المساجد، ودعم الدعوة، وتذليل العقبات أمامها...
جئته يوما –وأنا معتزٌ بتقويته لي- وقلت له: قمت بعمل لله في المحلّة الكبرى لا يجيزه القانون، ولكني ثقة فيك، واطمئناناً إلى عونك فعلته! قال مبتسماً: ماذا فعلت؟
قلت: وجدت الكنيسة التي تقع أمام مسجد أبي الفضل الوزيري، يعاد تشييدها، ورفع أبراجها، وتجديد معالمها، وبدا المسجد أمامها قزما، وعلمت أن أرض الأوقاف حول المسجد سوف تباع بالمزاد، وقد يشتريها إخواننا الأقباط ويتم حصار المسجد، فأمرت الأهالي بالاستيلاء عليها وتوسيع المسجد فوقها، وأثبتُّ ذلك في دفتر الأحوال، وكلفت مدير المساجد بمتابعة التنفيذ وتلقي التبرعات لتجديد المسجد على النحو المعقول!
فأطال الرجل النظر في وجهي وسأل: باسم مَنْ مِنَ الواقفين يكون هذا العقار المراد ضمه إلى المسجد؟ قلت: لا أدري! قال: ابحث على عجل وتعال إليّ...
ولم يمض غير أسبوع حتى كان العقار قد ضًمَّ إلى المسجد ضماً قانونياً وصدرت الأوامر بجعل مسجد الوزيري مسجداً نموذجياً... وتمَّ ذلك كله بفضل الله...
وكوفئ الوزير الغيور على الإسلام بإخراجه من الوزارة، وإرساله سفيراً إلى أمريكا الجنوبية...
وعندما خرج الرجل القويُّ الشجاع من الوزارة تذكرت قول الشاعر:
إن الأمير هو الذي يضحي أميراً يوم عزله!
إن ضاع سلطان الولا ية لم يضع سلطان فضله!
وربما نسي الناس كفاح هذا الرجل، لكن الله لا ينسى عمل عامل...!
مرَّت بي هذه الذكرى وأنا أنزوي في مكتبي المتواضع بالوزارة، بعد ما نـزل بي من ظلم، ثم انضمَّ إلي ذلك أني مُنعت من الخطابة في الجامع الأزهر! فقلت: لا داعي للعطلة، فلأتفرّغ للتأليف...
أتممْتُ في هذه العزلة ثلاثة كتب: الجانب العاطفي من الإسلام، ومعركة المصحف، ودفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، ووجدت من جميع العاملين بالوزارة معاونة تامة في العمل الصغير الذي كلّفتُ به، وإحساساً بالغضب المكتوم لما حلَّ بي من غمط...
غير أن مصيبة لم تكن متوقعة هبطت عليّ ففزّعتني...!
أبلغني الناشر أن الشرطة تحفظت على ثلاثة كتب كانت في المطابع يعاد طبعها، بعد نفاد طبعاتها الأولى هي: مع الله والتعصب والتسامح، أما كفاح دين فقد نقل إلى الداخلية، وتمت مصادرته...!
وشيء آخر حدث، أبلغني أصدقائي أن حظراً صدر يقضي ألاّ أظهر في الإذاعات كلها مسموعة أو مرئية، فإذا انضمّ ذلك كله بعضه إلى بعض، فالقصد واضح، هو تجميدي مادياً وأدبياً، وضرب حصار خانق حولي...!
والمقلق في هذا الوضع أني كنت بدأت بناء مسكن لي في الجيزة، وسأضطر لعدم الوفاء بما التزمت به! ثم إن نفقاتي أنا ستقلّ بعد أن جفّ أغلب المنابع!
وأنـزلت بالله حاجتي، وكتمت مخاوفي في أعماقي، ولم تَزَل ابتسامتي عن فمي أمام أهلي وأصدقائي، وكلَّ يوم يمر يتناقص معه رصيدي، ويتسلل القلق إلى فؤادي، بيد أني أعلل النفس بالأمل، وأرقب من الله الفرج...
وذهب الوزير الذي آذاني، وجاء آخر، لم يلبث غير قليل حتى أرسل إليّ، فصعدت إلى مكتبه، قال لي باقتضاب: دولة الكويت أرسلت تطلبك لتقضي شهر رمضان بها في الدعوة والوعظ! ألديك مانع؟ قلت: لا، فأمر باتخاذ إجراءات السفر!
عدت من الكويت، وقد قضيت شهراً مباركاً، أبيح لي فيه ما كان محظوراً عليّ في القاهرة، حاضرت في المساجد الكبرى، وتحدثت إلى أمهات الصحف، وسجلت دروساً كثيرة في التلفاز، والإذاعة، وتعاقدت مع الناشرين على طبع عشرة كتب من مؤلفاتي!
ماذا كان على القاهرة لو وسعتني كما وسعت الشيوعيين والملحدين من كل لون...؟
إنني أحتقر من أقصى القلب ناساً يتشدقون بالحرية العقلانية، فإذا تحدث الربانيون الدارسون، وشرعت الجماهير تتدافع إلى ساحتهم، جفّت حلوقهم من الذعر والهلع، وتنادوا فيما بينهم: امنعوا فلاناً وفلاناً من الكلام، وحولوا بين الناس وبينهم حتى لا يسمعوا منهم حجة...
ثم رجعوا في صفاقة نادرة يقولون: الحرية، التقدمية، العلمانية... إلخ!
كأن الحرية لهم وحدهم، والسجون والمنافي لخصومهم في الرأي...
عدت من الكويت، وكنت قبل سفري شديد الوجل من الأزمات الزاحفة عليّ، وكنت أحفظ حديثاً عن رمضان أنه شهر "يزاد رزق المؤمن فيه"، فسرَّني أن جعلني ربي في عداد أولئك المؤمنين المعانين، ووفيتُ بالتزاماتي كلها، ومنحت قصّادي ما ألفوا نيله مني، لو يشعر ذو سلطة أني محتاج إلى بابه، فلله الحمد والمنّة...
واستدعاني السيد حسين الشافعي، وفهمت منه أني أستطيع أن أخطب الجمعة، واختار لي وكيل الوزارة مسجد عمر مكرم بميدان التحرير، وذهبت إلى المسجد، وبدأت أؤدي فيه واجبي، وما أن علم الناس أني أخطب هناك حتى تدفقوا ألوفاً على المسجد والميدان المحيط به...!
وتكرر اعتراض الداخلية على ظهوري مرة أخرى، وهمس في أذني الأستاذ القرماني وكيل الوزارة، أن أدع الخطابة من تلقاء نفسي بدل أن أحرج السيد حسين الشافعي مع الوزارة المسؤولة عن الأمن!
فكتبت اعتذاراً عن أداء الخطبة، وتوفرت على الكتابة –وهي هواي الأصيل،ورأيت أن أحاضر في المساجد الأهلية، والأندية العامة، وأن أعمل مع العاملين على تقوية الروح الديني، ونشر الثقافة الإسلامية، ومطاردة الانحراف الفكري والخلقي، وشعرت بفطرة المؤمن أن هذا التنقل أفاد، وأن جيشاً من أهل الإيمان استطاع أن يثب بالدعوة إلى الأمام، فهل يترك الإسلام يتحرك وحده؟ كلا، لقد وقع ما ليس في الحسبان!
أحسّ أعداء الإسلام أن المصريين متمسكون بدينهم، راغبون في إعلاء شعائره، وإحياء شرائعه، وأنهم تحت وطأة القمع ينكمشون، ثم سرعان ما يفيقون ويُسمع جؤارهم بضرورة العودة إلى الدين...!
وكانت مصر في أوائل الستينيات تتجه نحو الشيوعية وتطبق أوامر صارمة ضد الأغنياء عموماً، وذهب جمال عبد الناصر إلى "موسكو"، وهناك قيل له: إن ترك الجماعات الإسلامية خصوصاً الإخوان المسلمين ينشطون على هذا النحو، سوف يدمّر مستقبل الاشتراكية، فأسرع جمال –وهو لا يزال في موسكو- بإعلان الحرب على الإخوان، وإنذارهم بالويل والثبور...!
وكان الشعار الذي تحركت تحته عساكر السلطة هو محاربة الإرهاب! والمرء يدهش للتوافق التام بين منطق الفراعنة في العصر القديم والحديث...!
إن موسى لما بعثه الله نبياً قال لرمسيس -فرعون مصر السابق-: ﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ ﴾ (طـه: 47)!
فكان جوابه بعد أن رأى المعجزات: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ (طـه:57).
إن موسى يقول له: ابق وحدك في أرضك... وأرسل معنا هؤلاء الذين ضِقت بهم! فيكون الردّ: أتريد إخراجنا من أرضنا؟ ويمضي فرعون في قلب الحقائق، فيقول: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر:26)!
فرعون خائف من أن موسى يفسد في الأرض!
على هذا العوج في اختلاق التُّهم، والتماس العيب للأبرياء، قيل في دعاة الإسلام إنهم إرهابيون!
ترى، لو قال هؤلاء الإرهابيون لأصحاب السلطة: اقتلونا، ونحن بذلك راضون، على شرط أن تتركوا الإسلام يحكم أمته ويُسيّرها في كل ميدان! أيرضون؟... كلا، لأن الحرب ضد الإسلام ذاته!
وفي سبيل ضرب الإسلام ضربة تشرِّد القريب والبعيد، اعتُقل في ليلة واحدة ثمانية عشر ألفاً من العاملين في الحقل الإسلامي، وكنتُ أنا واحداً من هذه الآلاف!
وقبل أن أصف أحداث هذه الليلة، أريد أن أذكر السبب المباشر الذي أدَّى إلى اعتقالي، وزجِّي في سجن "طرة"...
طُلبت إلى الإذاعة، فلما ذهبت وجدت عدداً من الشيوخ والإخوان الأقدمين. وكانت التعليقات محددة: إن الرئيس أمر بنشر مساوئ الإرهابيين، وتحذير الأمة من الثقة بهم أو التعاون معهم، ويجب أن تقوم بهذا الواجب الوطني على عجل!
تَمَلْمَلتُ فوق كرسيَّ ضائقاً، ولاحظ ذلك المشرفون على البرنامج فتجاهلوني، ثم كلفوني –بوصفي مفصولاً من الإخوان- أن أبدأ التسجيل!
كان جوابي حاسماً: أنا على استعداد للحديث عن الإسلام، وضرورة إحياء ما مات من أحكامه! ومستعد لإرشاد المخطئين، حكاماً كانوا أو محكومين، لإصلاح ما يكون قد بدر منهم من خطأ، أمّا شتم الإخوان وحدهم، فليس من خلقي أن أجهز على جريح...!
قيل: إنهم فصلوك من جماعتهم؟ فلماذا تُبقي عليهم؟ قلتُ: إذا استضعفوني أيام قوتهم، فلن أستضعفهم أيام حريتي...!
وما هي إلا ساعات حتى كانت القيود في يدي!
جاءت الشرطة بعد منتصف الليل بساعة، وطرقت الباب ففتحتُ، ودخلوا يديرون عيونهم في أرجاء المكان، ثم أفهموني بأدب أن أجيء معهم! وعرفت الوضع، وكانت إحدى بناتي قد استيقظت، فصاحت: بابا، فأمسكتها بلطف، وقلت لها: لا تخافي، سأعود بسرعة إن شاء الله، وقلت لزوجتي: أعدي حقيبة فيها عدد من الثياب...
وانطلقت السيارة بنا إلى سجن طرة...
نظر الضابط إليّ نظرة سيئة، ثم أمرني أن أخلع ملابسي وأرتدي ملابس السجن فاستجبت، ثم نظر مرة أخرى وصاح بغضب: في رجلك جوربٌ؟ ممنوع! فخلعت الجورب، واقتادني اثنان من الجنود إلى "الزنزانة" المعدَّة لي، وأرياني داخلها، على ضوء خافت، "جردليْن": أحدهما لقضاء الحاجة، والآخر غطاء! ثم أوصدا الباب وتركاني وحدي في ظلمة يضيئها جو السماء من خلال كُوَّة في السقف...
كأنما حدث كله مباغتة بعيدة التصوُّر! فبقيت مكاني أفكر كيف سأحيا هنا؟ وعلى أي نحو وهل سأعذب كثيرا؟ وبينما أنا في استغراقي سمعت أذان الفجر، فصليت إلى ما ظننت أنه قبلة، ولفَفْتُ حذائي في سراويل معي، وجعلته وسادة، واستغرقت في النوم، بعد أن قلت لربي: جعلت زمامي في يدك، آمنت بك وتوكلت عليك، "رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين"، لن أفكر في أسرتي أبداً فهي في ودائعك، اخلفني في أهلي بخير...! ثم رحت في سُبات عميق!
وصحَوتُ مع مطلع الشمس، فإذا خنفساء إلى جواري تزحف على الأرض المليئة بالحفر والشقوق، فقلت لها ضاحكاً: متى اعتقلت أنت الأخرى؟ امضي بسلام فلن يمسّك مني سوء...
وبدأتُ قراءة القرآن الكريم، واضعاً نصب عينيّ أن أختمه كل أربعة أيام...
كان الأكل رديئاً جداً، ولكنه يقيم الأوَد مهما تقزّز المرء عند تناوله! أما المشكلة التي خشيت منها على حياتي، فهي البرد الذي يهبط من كوّة مفتوحة أبداً، لأنها المنفذ الوحيد إلى الدنيا، ففي أثناء الليل أشعر بتيار يريد فتح جنبي الأيمن أو الأيسر كلما تقلبتُ، وأين المفر؟...
وتضرّعت إلى السجّان بعد أن آنست منه نظرات عطف أن يصنع لي شيئاً، فأتاني بقطعة خيش كبيرة، جعلتها على "الأسفلت"، واتخذت "البطانيتين" المهلهلتين غطاءاً...!
وأحسّ الإخوان المسجونون بمقدمي، وكان بعضهم يتطوع مع الموظفين الرَّسميين في الخدمة والنظافة، فاتفقوا على إراحتي من كنس المكان الذي أعيش فيه، ومن رمي فضلاته بعيداً، وعرفت بعدُ أن الذي قام عني بهذه المهمة مدرس بإحدى المدارس الثانوية...
في غبش الفجر يوماً ما جاء المدرس النبيل، ومعه أخصائي اجتماعيّ معتقل مثله،وأخذا يؤديان عملهما! ونظرت إلى أنضر شباب مصر يُهانُ عمداً لأنه مسلم! وهزّني الألم، بيد أني تماسكت حتى انصرفا، فوضعت وجهي تلقاء الجدار، وبكيت في صمت! فلما سمعت خفق أقدامهما عائدين أصلحت هيئتي بسرعة، وكلّماني فرددت عليهما، ونمَّ صوتي عما بي، فإذا هما يقولان: أكنت تبكي؟ فقلت: والله من أجلكما!
فضحكا وقالا: لا تعذيب هنا، نحن هنا في راحة، التعذيب في السجن الحربي، وفي القلعة، وفي... وذكرا أماكن أخرى... الأهوال هناك، أهوال من وراء الخيال!
إنني في كتابي قذائف الحق نقلت أطرافاً من صنوف النكال الذي نـزل بأولئك الشباب فهلك، وفقد من بقي صوابه أو سكنينته، أو طعم الحياة نفسها إلى أن يلقى الله، وذلك كله لتنصرف الأمة عن دينها، لتنسى الإسلام، وتسكت عن المناداة بكتابه وسنته!
ومع المحن السود التي مرّت بالعاملين لهذا الدين إبّان هزيمته؛ فإن ألوفاً مؤلفة من الشباب الأبرار ظلوا أوفياء للحق مخلصين لله، والغريب أن ضرب الإسلام وبنيه أصبح عادة مألوفة لكل وغد يملك السلطة، هذا يخدم الشيوعية، وذاك يخدم الصليبية!
وكلتا الجبهتين تخدم اليهود، وترى أن إسرائيل خلقت لتبقى... وكلتاهما تعتمد في منهجها السياسي على عقيدة صلبة، أما العقيدة عندنا –وهي الإسلام- فمنكورة محصورة، يستطيع أي تافه أن يتناولها بالهمز واللمز، ثم يمضي لشأنه كأنه لم يفعل شيئاً!
وعُدْت من خواطري إلى الواقع الذي يحيط بي، وتذكرت أهلي وأولادي وعزلتي، ثم لمتُ نفسي سريعاً على هذا الضعف، إنني استودعتهم الله، فلا معنى للخشية، ولقد بقيت في منفي الطور قريباً من عام فماذا حدث لهم؟ وهذا فلان ترك ابنته طفلة، ثم خرج من السجن فوجدها تزوجت، إنه غاب عنها طويلاً، فهل غاب الله عنها لحظة؟ كلا! وعادت السكينة إلى نفسي، وقررت أن أنكبَّ على تدبُّر القرآن الكريم ما بقيت هنا، وأن أضع نصب عيني قول الله لنبيه: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً﴾ (المزمل:8-9).
وشرعت في إنفاذ خطتي العلمية، مستبعداً الأمل في مخرج قريب! وبعد أن صليت العشاء سمعت ضجة غير معتادة، وانفتح الباب، وتدلّى سلك من الكوّة فيه مصباح كهربيّ، ودخل ضابط كبير عرفت أنه رئيس المعتقل، وسألني:شيخ غزالي: تطلب شيئاً؟ قلت: الملابس عندكم! فأمر فجيئ بها! وشرعت أرتديها، واقتادوني إلى إدارة السجن، فشربت كوباً من الماء لأول مرة من عشرة أيام في إناء زجاجي! ثم نقلتني سيارة إلى وزارة الداخلية، فقلت في نفسي: الآن يبدأ التحقيق...
ووقفت أمام ضابط جالس في ركن الحجرة، وقفت على بعد منه، وتهيأت للأسئلة، وإذا هو يقول لي:تفضل! فنظرت حولي فلم أجد كرسياً أجلس عليه!
فأعاد الأمر: تفضل! فقلت له: ماذا أفعل؟ قال: تفضل عد إلى بيتك!
فخرجت وأنا لا أصدق نفسي ولا ما حولي، وسرت قليلاً بجوار الوزارة فوجدت عمارة شاهقة مكتوباً عليها اسم الجلالة مناراً بالكهرباء...
شعرت برغبة عميقة أن أقبِّل اسم اللهَ لكن كيف؟ طويت حبي في قلبي، وأخذت سيارة إلى بيتي، وكان منظر القاهرة غريباً أمام عيني، لقد كنت في الجبّ، والآن أن على ظهر الأرض، وعلى قيد الحياة، ما أجمل الحرية! وما أجملها مع الأمن والإيمان!
إذا كان الله قد فكّ إساري فليكن شكري لنعمائه أن أسعى في فكّ إسار الآخرين، لأقل للناس: إن الله حق، وإن الجهاد في سبيله مضمون الثمرات في الدنيا والآخرة، صحيح أني أهون المؤمنين عذاباً، بيد أني أسرعهم إلى الله كلما دهمني كرب، ومازلت أرجو عافيته، وأفرح بها لنفسي ولغيري من عباد الله...!
وفيما أنا أستعد لاستئناف نشاطي، جاء بيتي المهندس أحمد عبده الشرباصي، والشيخ أحمد حسن الباقوري، فخفَفتُ لاستقبالهما... فقال لي الشيخ الباقوري بعد التهنئة بالإفراج: تدري من أخرجك؟ فقلت بصوت عالٍ عجل متحمِّس: الله!
وكانت اللهجة مفعمة باليقين والتقدير لربِّ العزَّة!
فسادَ صمتٌ طويل، احتراماً لهذا الإيمان، ثم قال المهندس الشرباصي بلطف: حقاً إن الله وراء كل فضل، وهناك مفاتيح للخير، تكون سبباً فيه، وهناك من أجرى الله علىيده! قلت في استغراب!: من؟ قال: جمال عبد الناصر، إنه لما حضر من مؤتمر المغرب، بُلّغ بمن اعتقُلوا في غيابه، وكنتَ أحدهم، فسأل: ماذا حدث منه؟ فلم يلق من أحد جواباً! فأمر بإخراجك فوراً... فنُفّذ أمره ليلاً ساعة صدر...!
ألجم هذا الخبر لساني، وكان له دويٌّ هائل في نفسي، ثم قلت: إذن سأذهب إلى قصر عابدين، وأكتب شكري في سجل الزيارات... غداً الجمعة، سأؤدي واحبي بعد غد!
ولكن يوم السبت لم يجيء حتى أُلقيَ القبض على زوج ابنتي الكبرى، وزُجَّ به في السجون مع آخرين، فقلت: أهذا يليق؟ علام الشكر بعد هذا؟ لن أذهب!
وبقي صهري في السجن أربعة أشهر، ثم أفرج عنه،ما سئل في شيء، ولا نُسب إليه شيء!
أحسست أن العمل للإسلام مضطرب، وأن التقوى عقبة أمام صاحبها، تعترض طريقه، فلا يمضي إلى الأمام أبدا، وأن الكفاية الشخصية جريمة ترشح من أصيب بها للخلف، والاستخفاء، وخَلَتْ مساجد من الشبان فما يصلي الفجر فيها إلا الشيوخ الفانون!
الحكم الفردي يأبى أن يسمع من بشر هذه الكلمة:
خُلقتُ عَيوفاً لا أرى لابن حرة عليَّ يداً أُغضي لها حين يغضب!
إنه يفضِّل رجلاً له زلَّة يسترها عليه، لينكّس بها رأسه أبدا، ويقفه أمامه عبداً، أما ذو الكفاية الشامخ الذي يناقش طباً للحقيقة ويقررها غير هيّاب، فهذا لا مكان له، ولا ينبغي أن يبقى...!
العملة السائدة هي الملق والزلفي، ألملق والزلفي، أما الخبرة والنـزاهة فتلك عاهات لا أوسمة!
وقد فُرضت هذه السياسة على كل شيء فيمصر، وأول الميادين نصيباً من هذا البلاء، الجيش، ثم الأزهر...
كنت واحداً من الذين حاربوا الإقطاعيين أيام الملك السابق، وها أنا ذا في عهد الثورة، وقد ذهب الإقطاع القديم فماذا أرى؟
إن عبود باشا اغتنى من إنشاء شركات أسمدة، وبواخر، وسكر. إلخ، فكيف اغتنى فلان، وأصبح عضواً في مجلس الشعب؟ قالوا: من تجارة المخدرات...!
أكان الأول عدوا للشعب لأنه اغتنى من طرق قانونية، والآخر صديقاً للشعب لأنه اغتنى عن طريق الحرام والملق والرشوة؟
ثم ما بال أولئك المنفيين في الواحات والسجون النائية؟ أيُكتب الشقاء على كل امرئ منهم، لأنه قال: أريد الحكم إسلاميا!
إلى متى يرسفون في قيودهم؟
تساؤلات كثيرة كانت تهجس بها نفسي، وأنا أمشي على صراط أحدٍّ من السيف، وأدَقّ من الشعرة، كي أستبقي للدعوة وجوداً وسط هذا الظلام...!
ثم جاءت سنة 1967، وجَنَينا الحصاد علقماً، لكني ما فكرت قط في أن الخزي الذي نـزل يحمل كل هذا السواد، ويلفُّنا في عارٍ لا أول له ولا آخر...
يا أسفاً على بلدي المحروب وأمتنا المغشوشة؛ في عشرين دقيقة فقط، دُمّرت مطاراتنا كلها، واحترقت طائراتنا وهي جاثمة على الأرض!
ولما كان لدينا أعظم جهاز للكذب في دنيا الناس، فقد خرج الغلام الموجَّه بجناحيه: الصحافة والإذاعة يقول للناس: إننا دمرنا طائرات اليهود...!
وما هي إلا أيام تعد على الأصابع، حتى كان الجيش بين قتيل وأسير وهارب، ما أغنى الكذب عنه شيئاً!
غالطت نفسي يوماً، وقلت لها: صحيح أن الحريات لا بد منها لضمان مصالحنا المادية والأدبية، أما يمكن أن يكون تولٍّ العسكر الحكم ضرورة مقبول لمواجهة إسرائيل؟ سيبنون جيشاً قوياً، ويوجهون مواردنا كلها لكسب الحرب، وهذا ميدانهم الذي تخصصوا فيه!
وجاءت الأحداث تقول:إن الحكم الفردي الجائر لا يكسب معركة أبدا! بل الغريب أن أعظم هزائمه كانت في الميدان الذي تخصص فيه...!
إن جمال عبد الناصر لم يكسب معركة قط، إلا المعركة التي أدارها ضد إخوانه، وضد الإسلام، وضد كرامات الناس!
في هذه المعركة قدر على تخريب آلاف البيوت، وسجن الألوف من الأبرياء، واستطاع أن يدفن في أرض اليمن مائة ألف مسلم، عدا الذين قبلوا سرّاً وعلنا في مصر!
أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامة فتخاء تنفر من صفي الصافر...!
هلاّ برزت إلى غزالٍ في الوغى! بل كان قلبك في جناحَيْ طائر...!
وإن تعجب فاعجب لجهاز لكذب الذي بقي يعمل دون توقٌّف...!
قيل لنا: أتظنون أننا انهزمنا؟ كلا، إن العدوّ لم يحقق هدفه! إنه كان يريد إسقاط جمال فخاب سعيه!
أرأيت صفاقة أوقح من ذلك؟
وعلمت بعدُ أن هذا الإسفاف منقول عن دعايات البعث العربي، بعد الهزيمة التي مُنّيَ بها هو الآخر!
إن إسرائيل تدفع أضعاف ميزانيتها بضع سنين، كي يقع انقلاب عسكري من هذا الطراز، في كل بلد عربي...! لأنه يضاعف رقعتها،ويؤكد سلامتها، ويحفظ حاضرها ومستقبلها...
وفي الأزهر والأوقاف أخذت الدعاية تعمل تحت عنوان:"نكسة أحد"! بالله ما صلة هزيمة 1967 بما أصاب المسلمين في أحد؟
ما صلة السكارى والحشاشين، بالصديقين والشهداء؟
ما صلة ناس لم يخسروا شبراً من أرض، ولم يضيعوا ساعة من الوقت بعد خطأ تورّط فيه تعضهم، فاحتشدوا على عجل، وخرجوا يطاردون العدوّ الذي أصاب منهم غِرّة، ما صلة هؤلاء بمن فقدوا كل شيء دون سبب واضح إلا الغفلة والسف؟
إن الدين مُرِّغ في الوحل كي يرضى الحاكم الصغير عن بعض الناس...!
الواقع أن حالة الجيش كانت رديئة، لأن أحسن الكفايات أبعدت عنه عمداً، ولو تمّ تحقيق نـزيه في حالة مصر كلها، لظهر أن مصر بعد رُبع قرن من الانقلاب العسكري، كانت تترنح من الناحية الروحية والخلقية، والاجتماعية والاقتصادية...
وإذا كانت الظروف قد كشفت تخلُّفنا السياسي والعسكري، فهي المصادفات التي أزاحت الغطاء عن المستور.
ورأيي أننا تقهقرنا إلى أيام الخديوي إسماعيل، وأن تخلفنا الحضاريّ لا يستره ازدياد عدد السكان، وارتفاع المقادير المستهلكة من الطعام والشراب...
لاحظت أنا الحس الديني عند المصريين جعلهم يردُّون الهزيمة إلى هجران الدين ومحاربة أهله! فماذا فعل جمال عبد الناصر ليعلن انعطافه إلى الدين، وصلحه مع الله؟ انتظر أول حفل لمولد النبيّ r، فذهب إلى مسجد الحسين ليشارك فيه! ذهب بعد صلاة الغرب، وانصرف قبل صلاة العشاء!
إن الرجل انقطعت علاقته بالإسلام من أمَدٍ بعيد، وأظن ذلك يرجع إلى صداقته مع تيتو وسوكارنو ونهرو وغيرهم، فقد حسب أن أولئك الرهط من الرؤساء على درجة عالية من الثقافة والمكانة، فأحبَّ التشبُّه بهم، والنسج على منوالهم!
ولم تكن لديه حصيلة من المعرفة واليقين تنأى به عنهم، فألحَدَ مثلهم ليكون عظيماً هو الآخر!
ولعل مما أعانه على مروقه شيوخ الأزهر الذين ازدلفوا عنده طلاب دنيا... ولو كان فيهم من يهاب الله لتماسك الإيمان قليلاً في نفس هذا البائس... وحدثت بعد الهزيمة تمثيلية الاستقالة والنكول فيها، ورأى الناس في مجلس الأمة المصري منظراً نُقِلَ إلى القارات كلها لما يصرخ به من دلالة مهينة، فقد وقف عضو في المجلس يرقص! لعودة الرئيس في استقالته...!
والعضو الراقص يفعل فعلته تلك وعشرات الألوف من جنودنا أسرى لم يطلق سراحهم، وآلاف القتلى والجرحى يملأون البيوت أحزاناً...
إن هذا العضو لا يحسن تمثيل نفسه ولا أسرته، ولكن النظام الذي وضعه الحاكم الفذ الذي استكثر من هذا النوع، وجعله –وهو الجدير بأن يُحجرَ عليه- قوّاماً على شؤون الأمة!
إنه يرقص لأنه سيبقى هو، فلو جاء حكم شرعي لا زيف فيه، لعاد إلى الفلاحة أو إلى أي حرفة آلية يأكل منها، وحسبه ذلك...
إن الاستبداد الأعمى يحتاج في سناده إلى أشخاص غير طبيعيين يتبادل معهم المنفعة، يسترون نقصه ويتجاوز عن قصورهم، ويتعاونون جميعاً على قيادة القافلة... إلى الهاوية...
الحق يقال إن سوق الجهل نفقت في هذه السنوات العجاف، انهزمت الرجولة والخبرة والديانة، وتقدم مجيدوا الانحناء والتزوير والاستغلال!
إنني أعتبر أن جمال عبد الناصر مات سنة1967، وإذا كان قد تأخر سنتين عن ترك هذه الدنيا، فإنه على أية حال ورَّث العرب عاراً تسودُّ له الوجوه، وورَّث اليهود نصراً لم يحلموا به يوماً، وورَّث المسلمين مشكلات أعقد من ذَنَب الضَّبّ...!

--مع أنور السادات --
عدت من محاضرة تدريبية لأئمة المساجد إلى وزارة الأوقاف، كي أنجز الأعمال الإدارية المطلوبة مني، فوجدت موظف الاستعلامات ينتظرني بصبر نافذ، ويقول: إن الوزير انتظرك كثيراً لتذهب معه إلى رئيس الجمهورية، وأوصى أن تلحق به فور مجيئك، فإنه وشيخ الأزهر على رأس وفد سيلقى الرئيس السادات!
 وكان الموظف من الإخوان، وكان حريصاً على ما يراه الخير، فلما وجدني فاتراً في الاستماع إليه، أقسم عليّ أن أذهب، وأمر سائق السيارة أن ينطلق بي للحاق بالوفد...
إن أنور السادات لم يكن أفضل زملائه بعد جمال عبد الناصر، ربما كان أقلّهم، غير أن الأقدار جاءت به، برغم أنوفهم جميعاً، وقد قبلوه على مضض، وزيَّن لهم الرضا به أن الأمور ستكون في أيديهم، أي أنه سيكون رئيساً صورياً...
والحق أن الجيش كان في أيديهم، والشرطة، والإعلام، وكل ما يورث القوة، على حين كان السادات مجرَّداً من أي دعم! ومع ذلك فقد انهزموا أمامه، وتغَّذى بهم قبل أن يتعشَّوا به...!
ما السبب؟ ألذكاء السادات ودهائه؟ لقائل أن يقول ذلك! أما رأيي فهو أن خذلان الله للقوم حرمهم من كل توفيق، فانتحروا، ولا أقول: انتصروا! إنهم جميعاً اضربوا عن العمل ظانين أن أجهزة الدولة ستتوقف!
فما توقف جهاز، بل ظل كل شيء يدور وفق العادة، كما ظل جنُّ سليمان مسخرين في العلم، يتلقَّون الهوان، وسليمان ميت!
وانتهز السادات الفرصة، وتفاهم مع بعض الرجال الناقمين، واستولى على السلطة، وزج بخصومه في السجن جنباً إلى جنب مع الإخوان المسلمين...
وكان منظراً عجباً أن الذين كانوا يضربون الإخوان أمس، يتلَقَّون العذاب معهم اليوم!
وبعد ما انفرد السادات بالسلطة، هرعت الوفود للتأييد! ألا ما أحقر الحياة! وقادتني السيارة على عجل فلحقت بوفد الأزهر، وعلى رأسه الشيخ محمد الفحام، ووفد الأوقاف وعلى رأسه الدكتور عبد العزيز كامل...
والواقع أن استقبال السادات بالترحاب كان صادقا، فإن العصابة الذاهبة ما تركت وُدّاً في قلب، وبديهي أن يَعد الرئيس الجديد بتغيير شامل، وأن يُنتظر منه الخير!
كنت أنا حاضراً بجسدي، أما فكري فهو سارح في ذكريات مضت عليها سنون، لكن الرئيس السادات لما وقع بصره عليَّ، حيّاني بتقدير خاص، وتساءل: أين أنت...؟
وفهم الحاضرون أني موضع الرضا، فعاملوني باحترام أكثر! وقد فهم السادات من الدكتور عبد العزيز أن يضم إلى ذلك إعطائي سلطات وكيل الوزارة في عملي...!
قررت أن أؤدي عملي الجديد بأمانة وقوة، وأن أنوِّه بصنيع الرئيس معي وأشكره علانية!
إن الجهود المبذولة لخدمة الدعوة في وزارة الأوقاف حسنة جداً، وقد تعاونت فيها قوى كثيرة، فنحن ندرب كل إمام شهراً تقريباً في المدينة الأزهرية التي تعيش فيها البعوث الإسلامية...
في مبنى خاص يجتمع عشرات الأئمة، ويتلقون المحاضرات في العلوم التي لم يستكملوها في الأزهر، ويعطيهم أعظم المفكرين ثمرات تجاربهم، ويظلون في عزلتهم العلمية هذه المدة، ثم ينصرفون إلى وظائفهم بعد اختبار يفيدهم في مستقبلهم...
وهناك نشاط علميٌّ آخر، ففي كل عام تجري مسابقة في عدة كتب مختارة، توسع أفق قارئها، وتزيد خبرته بعمله، ويُعطى بعدها جائزة حسنة بعدما تختبر معلوماته...
وقد رأينا أن ننتقل نحن إلى الأقاليم،فنجتمع برجال الدعوة شهرياً لنتدارس ما ينبغي سلوكه لأداء الرسالة على وجه أفضل...
ورأينا إمداد المساجد بمكتبات تيسِّر الاطلاع وتقرِّب المعرفة...
وقد تعاونا مع أهل الصدق في النهوض بالدعوة، فإن الشكليات المرعية تقتل الحقيقة، وتعصف باللباب، بيد أن أهل الصدق قليلون...
أذكر أن وكيل الوزارة كلَّفني يوماً أن أضع خطبة محترمة في تحديد النسل، لأن المشروع موشك على الفشل! فقلت له: إن مشكلة الانفجار السكاني في العالم لا تحلّ على حساب المسلمين وحدهم! قال: ماذا تعني؟ قلت: التعليمات صدرت لغيرنا أن يتكاثروا، فلا أعمل أنا على تقليل المسلمين!
فقال في عبوس: أنت موظف، وقد أمر الرؤساء بشيء فيجب تنفيذه!
فقلت في صرامة: أنا لست موظفاً في بيت أحد الرؤساء، أنا وأي رئيس موظفون في جهاز إسلامي حسيبنا فيه الله، فأنا أرعى ربي قبل أي امرئ آخر، أنا ورئيس الدولة نأخذ مرتباتنا من وعاء واحد، من مال المسلمين، أنا لا آخذ مرتبي من كيس أجد حتى أجعل ولائي له من دون الله...!
فأشاح معرضاً، وانصرف مغضباً، وانصرف مغضباً، وبعد أيام أرسل إليَّ، وقال: يا سيدي كتب الخطبة غيرك! قلت: ليكتب من شاء ما شاء، أمّا أنا فلا أبيع ديني لأحد...
إنني أكره الشيوخ الذين يسترضون الرؤساء بالفتاوى الجهلاء، إنهم يدورون –في القاهرة وفي كل عاصمة- بذممهم، كما يدور سائقو سيارات الأجرة بعرباتهم، يتلفتون:هل من راكب؟ قبحهم الله، وقبّح من كلّفهم، وقبل منهم...!
وفي أحد الأيام جاءني صديق كثير الدعابة يقول لي:لقد وقعت في شر أعمالك! أتدري أن الدكتور عبد الحليم محمود عُيّن وزيراً للأوقاف؟ قلت: وأي ضير في هذا؟ قال: ألم تكتب في مجلة لواء الإسلام تصحيحاً لحديث نشره؟ قلت: بلا! ولو أن امرؤاً صحَّح لي خطأ بنيَّة حسنة ما وسعني إلا شكره! قال:سنرى! ودخل الدكتور عبد الحليم الوزارة، وخشيت أن أكون بين مستقبليه حتى لا يقع ما يسوؤني!
وبعد قليل جاءني رسول من الدكتور الوزير يطلبني، فذهبت إليه، فأخذني ناحية وقال لي: إنني أريد أن أبدأ عملي في وزارة الأوقاف بخدمة كتاب الله، فأُعلِن عن مسابقة بين طلاب الأزهر، وأرتب جوائز سخية لمن يحفظون القرآن الكريم، وأريد أن أمضي القرار الوزاري بذلك اليوم!
فحمدتُ له هذا الاتجاه، وتمّ إنجاز ما يبغي، وافتتح الرجل الطيب أعماله بتقديم ذلك الخير للمسلمين! لقد كانت علاقتي به حسنة، وكان مستحيلاً في شمائل الرجال أن يضيق بتصحيح علمي قمت به...
وأرسل إليّ الدكتور عبد الحليم بعد ذلك، يخبرني أنه قد وقع اختياره عليَّ، لأخطب الجمعة في مسجد عمرو بن العاص، فقلت له: إنه ليس بمسجد...! لقد تغيرت معالمه، فأصبح أرضاً فضاء بين جدران بالية، وكثيراً ما تطفح مياه المجاري في صحنه!
قال: ولهذا اخترتك! قلت: لماذا لا أعود إلى إلقاء خطبة الجمعة بالأزهر، وقد ظللت بضع سنين أتطوع بذلك؟ قال: اليوم الأربعاء بعد غد سأصلي وراءك في مسجد عمرو بن العاص، فاستعد!
وجاء يوم الجمعة، وكنت في المسجد مبكراً، لأشرف على تهيئة مكان للصلاة! كانت أكوام القمامة حول المسجد تصل السقف بالأرض، وكانت هناك سحب من الدخان تغطس المسجد من "الفواخير" المبعثرة إلى جواره، وكان صحن المسجد قطعة من صحراء مهجورة، يشيع فيا التعرج والالتواء، ونظرت إلى المساحة الشاسعة التي تقع بين أجنحة المسجد المتداعية، ثم قلت:ماذا أصنع في هذا المكان الذي تعوي فيه الرياح...
وصلّيت مع الدكتور وألقيت خطبة عادية، ودعا لي هو بخير! وبدأنا الكفاح الصعب، فإذا المسجد يتضاعف رواده، وبعد أن كانوا بضع عشرات لا تصح صلاة الجمعة بهم –في بعض المذاهب- أصبحوا مئات، ثم آلافا، وقدرت وزارة الداخلية المصلين في بعض الجمع بثلاثين ألفا..
والسرّ أني اهتممت بالموضوع الذي أعرضه على الناس، وإذا تجاوزنا المناسبات التي تفرض نفسها، فإن التفسير الموضوعيّ للقرآن الكريم كان شغلي الشاغل، وقد تأسَّيتُ في أسلوب العرض، بالشيخ الجليل الدكتور محمد عبد الله دراز، في كتابه النبأ العظيم.
والحق أن المصلين يكرهون الخطب التي ترسل للآذان رنين الفراغ، أو التي تتضمن موضوعاً سياسياً تافها...
إنني أنا استفدت مزيداً من العلم والتدبر في كتاب الله، والارتباط بالله سبحانه وتعالى، إذ كانت الخطبة ذكراً لله، وإحياء لأوامره.
والرجل الذي يرجع إليه الفضل في عمران المسجد هو السيد حمدي عاشور الذي أمر بتنسيق الميدان حوله، والذي أزال مصادر الدخان، وسخّر النقلة فحملوا بعيداً عن المسجد نحو ألف عربة من القمامة، ثم ألّف لجنة تتولى البناء لما تهدَّم، والصيانة لما أهمل، فإذا المسجد مثابة للمسلمين من كل فجّ، ومدرسة يلتقي فيها الجامعيون أساتذة وطلاباً، ويقصدها العابدون من الوجهين القبلي والبحري...
ولما كان السيد حمدي عاشور محافظاً للقاهرة، فإنه أُبعد عن منصبه من أجل هذا الشعور الديني الغالب!
وفي أيامي الأخيرة رأى الأستاذ الدكتور زكرياء البري أن يكشف الحيف النازل بي، وأن يجعلني وكيلا لوزارة الأوقاف، وقدر على إقناع أنور السادات بذلك؛ وأنا أرى أن المناصب فرص متاحة لعمل خير كثير، وكلما كبر المنصب كانت دائرته أرحب في نفع الأمة، وما أخشى أن أكون في منصب ما، ما دمت أنوي تسخيره فيما أنشئ من أجله، والمناصب أنشئت للنفع العام وحده...
وسألني أحد الناس: لمن سيكون ولاؤك؟ قلت: لله بداهة! قال: وإذا وُكّلتَ بمدح الحكام وتسويغ سياستهم؟ قلت: ليس هذا عملي، أنا أعمل للإسلام وحده!
قال: إنك تعرف السادات وتنقد سياسته! قلت: ولم أتغيَّر...! فمضى عني يائساً...
ولما بدأت تسلُّم عملي، كان الأمر أعجل مما أتصوَّر، فقد واجهني اختبار لم أر معه بداً من ترك منصبي، مع حرصي على أن أبقى فيه لأخدم ربي وديني! لقد تركته بعد يومين اثنين على طريقة "ما سلّم حتى ودَّع"!
إن الرؤساء في أمتنا المحرومة يحسبون أنهم اشتروا رجلاً عندما أسندوا إليه منصباً، وقد نظرت إلى ميدان الأعمال الدينية والأنشطة الإسلامية فوجدت أن الذي تخيَّر الرجال في هذا الميدان كان حاذقاً في رمي الإسلام بكل مصيبة!
وما هي إلا أيام حتى كان النشاط الإسلامي كله في مهبّ عاصفة هوجاء تركته شذر مذر...
وقال لي أحد العارفين بالسياسة: كان لا بد أن يقع هذا الدمار في دوائر العمل الديني، فإن الرئيس السادات عاد من أميركا بغير الوجه الذي ذهب به! قلت: كيف؟ قال: إن اليهود يطلبون أن تكون العلاقات بينهم وبين مصر طبيعية، لا عداء ولا جفاء!
ويقضي هذا بتغيير مفاهيم دينية وتاريخية، وتحوير أوضاع اجتماعية واقتصادية...!
وما دام التيار الإسلاميُّ في مصر قوياً نامياً مهيمناً على الشباب، ومؤثراً في مجرى الأمور على النحو المشهود في مصر، فمعنى ذلك كله أن معاهدة "مخيَّم داود" التي فصلت مصر عن العرب قد فشلت! وأن أيام السادات معدودة بعد هذا الفشل!
قلت: كأن الرجل بضرب الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية يريد توكيد وجوده، واستبقاء حياته، وإشعار بين إسرئيل –ومن ورائهم أميركا- بأنه قوي جدير يثقتهم، قال: ذلك ما يقصد، وهذا سر صياحه: أنا صاحب القرار، أنا وحدي! أنا سأعلمكم كيف تحترمون الحكام! وهو سر حلفه بعد ما اعتقل رئيساً للإخوان:والله لن أرحمه...! وسر تعليقه على حبس الشيخ الذي ندّد بكثرة استراحاته، فقال بعدما أمر بسجنه: إنه مرميٌّ في السجن كالكلب!
يقولون: إن طالب القوت ما تعدّى، ويبدو أن طالب الرياسة كذلك، يفقد العقل والخلق والدين وراء ما يشتهي!
كل هذا الهوان ينـزل برجال الإسلام لأنهم يرفضون الصلح مع اليهود...!
والطريف في تلك المأساة أنها تتم باسم الشعب، أي شعب؟ لعله الشعب اليهودي!
الملاحظ على السادات أنه تحت عنوان كراهية العيب ألغى الرقابة الإدارية في مصر، وغضّ الطرف عن فضائح مالية...
وتحت عنوان تقاليد القرية غَشِيَ أحفالاً راقصة يسهل فيها تقبيل النساء وكسر التقاليد القروية والمدنية! والمعروف أن امرأته من أسرة مالطيّة هاجرت إلى مصر أخيراً، وقيل إنها اعتنقت الإسلام...! والأمر عندي موضع ريبة...
إنه رجل غريب الأطوار، ندع حسابه إلى الله..
-------------
المصدر: مجلة إسلامية المعرفة
(العدد السابع للسنة الثانية) يصدرها المعهد العالمي للفكر الإسلامي
  1. عمتَ مساءاً أخي الشيـخ.. و اسعـَـد الله جمعتك بكُـل خير..

    و كما وعدتُك.. ها انا آتي مهرولاً نحو النت بعد عِـشَـاء هـذا الجمُـعـة.. لا ألوي على شيء سوى لتفقُـد مدوّنتك.. و تصفُحُهـا.. و الوقوف على هذه الدُرر من المواضيع المتنوّعة.. جعلها الله في كيزان حسناتك..

    ----------------

    و كنتُ قد مررتُ ببعض المواضيع مرُوراً سريعاً.. حيثُ قرأتُها على عجل.. ثم| لأحُطّ الرّحال على هذا الموضُوع المميّز الذي فتحتُه في نافذة منفردة.. و هو يتناول بإسهاب سيرة العلاّمة الفذ الشيخ محمّد الغزالي رحمهُ الله..

    و إن كان هذه المذكّـرات الوافية و الكافية.. و التي أتت على لسان صاحبهـا.. لم تُـغادر صغيرة و لا كبيرةً إلاّ ذكَرَتـها و أحصتها حيال مسيرة العلاّمة...

    و وددتُ القول فقط أني لن أنسَى على الإطلاق أنّ أوّل كتاب قرأته في حياتي للعلاّمة الغزالي رحمهُ الله و انا طفل صغير و ابنُ عشر سنين ربما.. كان كتاب -الحقّ المُرّ- و قد منحني إياه جدّي رحمه الله.. معَ كتاب آخر لنفس العلاّمة عبارة عن مجمُوعة خُطب منبريّة مكتُوبة..

    و كانت دهشتي و إعجابي كبيرَين للغاية آن ذاك.. و لا يُـمكن وصفهُمـا.. بأسلُوب العلاّمة.. و بـبلاغته.. و طريقة طرحه المُؤثّرة بعُمق.. و سعة علمه و اطلاعه...الخ..

    و حتّى المواضيع الحسّاسة التي يتناولُها و التي تتوافق و المرحلة و الفترة الزمنيّة التي عاشها...

    بل إنّ بعض تلك المواضيع لايزال محفُوراً بذاكرتي إلى اللحظة...؟! رغم توالي السنين و تعاقُب الأزمنة...!

    بل ذاك الكتاب نفسه -الحقّ المُـرّ- أظنه لازال محفوطاً عندي بين بعض الكتب القديمة لديّ و قد اصفرّت أوراقه و رثّ حاله...

    ------------------

    ردحذف
  2. -------------

    و ختاماً.. فلأذكّر فقط ببعض ما أتى على لسان العلاّمة رحمه الله في مُجمل أحاديثه.. كقوله و هو يتساءل...

    -لِمَ لم نسمع عن ياباني ركبه جنّ.. أو به مسّ...-

    أو هكذا قال رحمه الله...

    و إن كنتُ من المؤمنين تماماً بقضيّة -الـجـنّ-

    لكني لا أخفي تأييدي التام لطرح الشيخ الغزالي.. في بعضٍ ممّا يرمي إليه...

    ففي واقعنا.. كثيراً ما نرى أناس تهاونوا في صلواتهم.. و أوغلوا في الإعراض عن الذِكر و القُرآن...

    و يقضُـون أوقاتهُـم في سماع الأغاني الهابطة و الماجنة.. و مشاهدة التمثيليات و المسلسلات الفاسدة.. بمشاهدهـا الفـاجـرة...

    ثمّ ترى أحدهم يشكُوا و يتذمّـر.. و يقول أن به مسّ أو سحر.. أو عفريت ركبه....؟؟؟ و تجده يركض و يجري بين الرُقاة.. صادقين كانوا أو دجّالين... ليُنقذُوه ممّا هو فيه...؟؟

    -----------------

    أو تجدُ كذلك أُمـّاً مـا فشل ابنُها في الحياة.. لأسباب أو لأُخرى... قد تكُون هيَ كـأُمّ.. أوّل و أبرز سبب في فشلـه ذاك....؟؟؟

    ثمّ تراها بعد ذلك تُعلّل فشل ابنها بالمسّ أو بالعين أو السّحر و دارولو... و عملُولو.....؟؟؟؟

    و لا تكفّ عن الهذيان بذلك.. و الرّكض و الجري بابنها من راقي إلى آخـر...؟؟؟

    و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله..

    و كم صدق شيخُنا الفاضل.. رحمةُ الله عليه.

    ----------------------

    سأمضي لتصفُح بعض المواضيع الاخرى..

    و دُمتَ بخير.. و في حفظ المولى اخي العزيـز.

    ردحذف
  3. أسعد الله أوقاتك، صباحاتك ومساءاتك وكل ثواني حياتك أخي العزيز عماد، وبوركت على إضاءاتك النيرة دائما، أسعد كثيرا بتعليقاتك القيمة..
    ربي يحفظك ويُبعد عنك كل سوء..

    ردحذف

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

أخبار الجزائر والعالم

2020