﴿وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ﴾
قال الله عز وجل:﴿
ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا
نُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا أَبدًَا وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَاللَّهُ
يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ * لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم
وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُم وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ
الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ * لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم
مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَفقَهُونَ * لاَ
يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ
جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ
شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ * كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم *
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ *
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾(الحشر: 11- 17)
أولاً-
هذه الآيات الكريمة من سورة الحشر، وهي سورة مدنية تعنى بجانب التشريع شأن
سائر السور المدنية. والمحورُ الذي تدور عليه أحداث السورة كلها هو الحديث
عن غزوة بني النضير. وبنو النضير هم اليهود الذين نقضوا العهد مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وتآمروا على قتله، فأجلاهم عليه الصلاة والسلام
عن المدينة المنورة بأمر من الله تعالى، ولهذا كان ابن عباس- رضي الله
عنهما- يسمِّي هذه السورة: سورة بني النضير، إذ فيها مبدأ قصتهم، ومنتهاها.
وحين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، صار الكفار معه ثلاثة
أقسام: قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه، ولا يظاهروا عليه، ولا يوالوا
عليه عدوه، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم. وقسم حاربوه، ونصبوا
له العداوة. وقسم لم يصالحوه ولم يحاربوه، بل انتظروا ما يؤول إليه أمره
وأمر أعدائه، وكان من هؤلاء من دخل معه في الظاهر، وهو مع عدوه في الباطن،
ليأمن الفريقين، وهؤلاء هم المنافقون.
وقد
عامل عليه الصلاة والسلام كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك
وتعالى، فصالح يهود المدينة، وكتب بينهم، وبينه كتاب أمن، وكانوا ثلاث
طوائف حول المدينة: بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة. فحاربه بنو
قينقاع بعد ذلك بعد بدر، وأظهروا له البغي والحسد. وكان من حديثهم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال:«
يا معشر يهود ! احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا،
فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم ».
فقالوا:« يا محمد ! إنك ترى أنا قومك، لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم
لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنَّا والله لئن حاربناك، لتعلمن أنا نحن
الناس »، فسارت إليهم جنود الله، يقدمهم عبد الله ورسوله، وكانوا
حلفاء عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول رئيس المنافقين، وكانوا أشجع يهود
المدينة، وحامل لواء المسلمين يومئذ حمزة بن عبد المطلب، فحاصرهم أشد
الحصار خمس عشرة ليلة، وهم أول من حارب من اليهود، وتحصنوا في حصونهم، وقذف
الله في قلوبهم الرعب الذي إذا أراد خذلان قوم وهزيمتهم، أنزله عليهم،
فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، في رقابهم وأموالهم ونسائهم
وذريتهم، فأمر بهم فكتفوا. وكلم عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول فيهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم وألحَّ عليه، فوهبهم له، وأمرهم أن يخرجوا من
المدينة ولا يجاوروه فيها، فخرجوا إلى أذرعات من أرض الشام، فقلَّ أن لبثوا
فيها حتى هلك أكثرهم.
ثم
نقض بنو النضير العهد، وكان ذلك في أوائل السنة الرابعة من الهجرة بعد غزوة
أحد، وقبل غزوة الأحزاب. وسبب ذلك أنه خرج إليهم في نفر من كبار أصحابه،
منهم أبو بكر، وعمر، وعلي- رضي الله عنهم- وكلمهم أن يعينوه في دية
الكلابيَّيْن اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضُّمَّري، بحكم ما كان بينه،
وبينهم من عهد، فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ! اجلس ها هنا حتى نقضي حاجتك.
وخلا بعضهم ببعض، وسوَّل لهم الشيطان الشقاء الذي كتب عليهم، فتآمروا
بقتله. وكان صلى الله عليه وسلم جالسًا إلى جدار من بيوتهم، فقال بعضهم
لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمَنْ رجلٌ منكم يعلو هذا
البيت , فيلقي عليه صخرة , فيريحنا منه ? فقال عمرو بن جُحاش بن كعب: أنا
لذلك. فقال لهم سلام بن مشكم: لا تفعلوا، فوالله ليخبرن بما هممتم به، وإنه
لنقض العهد الذي بيننا، وبينه. وجاء الوحي على الفور إليه من ربه تبارك
وتعالى بما هموا به، فنهض مسرعًا، وتوجَّه إلى المدينة، ولحقه أصحابه،
فقالوا: نهضت ولم نشعر بك، فأخبرهم بما همَّت يهود به.
وكان
قد سبق هذا إقذاع كعب بن الأشرف- وهو منهم- في هجاء رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وتأليبه الأعداء عليه، وما قيل من أن كعبًا هذا، ورهطًا من بني
النضير اتصلوا بكفار قريش اتصال تآمر وتحالف وكيد ضد النبي صلى الله عليه
وسلم، مع قيام ذلك العهد بينهم، وبينه، مما جعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأذن لمحمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف، فقتله. فلما كان التبييت
للغدر به، لم يبق مفرٌّ من نبذ عهدهم إليهم، وفق القاعدة الإسلامية:﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾(الأنفال: 58)،
فتجهز عليه الصلاة والسلام لحربهم، وبعث إليهم أن اخرجوا من المدينة، ولا
تساكنوني فيها، وقد أجلتكم عشرًا، فمن وجدت بعد ذلك منكم فيها، ضربت عنقه،
فأقاموا أيامًا يتجهزون. وأرسل إليهم المنافق عبد الله بن أُبَيٍّ بنِ سلول
أن لا تخرجوا من دياركم، فإن معي ألفين يدخلون معكم حصنكم، فيموتون دونكم،
وتنصركم قريظة، وحلفاؤكم من غطفان. وطمع رئيسهم حُيَيُّ بْنُ أخطبَ فيما
قال له المنافق عبد الله بن أبي سلول، وبعث إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: إنَّا لا نخرج من ديارنا، فاصنع ما بدا لك. فحاصرهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأمر بقطع نخيلهم والتحريق فيها، فنادوه: أنْ يا محمد !
قد كنت تنهَى عن الفساد، وتعيبه على من صنعه: فما بال قطع النخيل وتحريقها
؟ وفي الرد عليهم نزل قوله تعالى:﴿ مَا قَطَعْتُمْ
مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ
اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾(الحشر: 5).
ولما
بلغ الحصار ستًا وعشرين ليلة , يئس اليهود من صدق وعد المنافقين لهم ,
واعتزلتهم قريظة وحلفاؤهم من غطفان، وقذف الله تعالى في قلوبهم الرعب ,
فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم، ويكف عن دمائهم- كما سبق
إجلاء بني قينقاع- على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح،
فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به
الإبل، فكان الرجل منهم يهدم بيته عن خشبة بابه، فيحمله على ظهر بعيره، أو
يخربه حتى لا يقع في أيدي المسلمين، وكان المسلمون قد هدموا بعض الجدران
التي اتخذت حصونًا في أيام الحصار، واستولى رسول الله صلى الله عليه وسلم
على أراضهم وديارهم وأموالهم، وقال:« هؤلاء في قومهم بمنزلة بني المغيرة في
قريش ». وفي هذا يقول الله تعالى:
﴿
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن
دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ * وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ
عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
﴾(الحشر: 2- 4).
وبهذا
تتم حكاية ما وقع ليهود بني النضير في تلك الصورة الموحية , وهذه الحركة
المصورة المعبرة، وكان منهم من سار إلى خيبر , ومنهم من سار إلى الشام..
وكان من أشرافهم الذين ساروا إلى خيبر سلامُ بنُ أبي الحقيق , وكنانةُ بنُ
الربيع بنِ أبي الحقيق , وحُيَيُّ بنُ أخطب , ممَّن ورد ذكرهم بعد ذلك في
تأليب المشركين على المسلمين في غزوة الأحزاب، ووقعة بني قريظة، وكان
لبعضهم كذلك ذكر في فتح خيبر.
وكانت
أموال بني النضير فيئًا خالصًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم
يخمِّسها، لأن المسلمين لم يوجفوا عليها بخيل، ولا ركاب، وخمَّس قريظة. قال
مالك:« خمَّس رسول الله قريظة، ولم يخمِّس بني النضير، لأن المسلمين لم
يوجفوا بخيلهم، ولا ركابهم على بني النضير، كما أوجفوا على قريظة ». فقسمها
صلى الله عليه وسلم على المهاجرين خاصة دون الأنصار عدا رجلين من الأنصار
فقيرين، وذلك أن المهاجرين لم يكن لهم مال بعد الذي تركوه في مكة، وتجردوا
منه كله لعقيدتهم، وكان الأنصار قد أنزلوهم دورهم وشاركوهم مالهم في أريحية
عالية , وأخوة صادقة , وإيثار عجيب. فلما واتت هذه الفرصة سارع رسول الله
صلى الله عليه وسلم لإقامة الأوضاع الطبيعية في المجتمع الإسلامي، كي يكون
للفقراء مال خاص بهم، وكي لا يكون المال متداولاً في الأغنياء وحدهم. وقال
عليه الصلاة والسلام للأنصار:« إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم
وشاركتموهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم , ولم يقسم
لكم شيء من الغنيمة ». فقالوا:« بل نقسم من أموالنا وديارنا، ونؤثرهم
بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها ». وهذا ما تحدثت عنه السورة الكريمة في مقطعها
الثاني.
ثانيًا-
بعد أن بيَّن الله عز ما حلَّ بيهود بني النضير، وما اتصل به من بيان
أسبابه، وبيان مصارف فيْئهم وفَيْء ما يُفتَح من القرى بعد ذلك، أعقبه
سبحانه وتعالى بذكر أحوال المنافقين الفاسدة مع إخوانهم من أهل الكتاب،
وتغريرهم بالوعود الكاذبة، ليعلم المسلمون أن النفاق سجيَّة في أولئك لا
يتخلون عنه، ولو في جانب قوم هم الذين يودُّون أن يظهروا على المسلمين،
فقال سبحانه وتعالى:
﴿
ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ لَئِن أُخرِجتُم لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم وَلا
نُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا أَبدًا وَإِن قُوتِلتُم لَنَنصُرَنَّكُم وَاللَّهُ
يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾(الحشر: 11)
والآية-
كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما- نزلت في رهط من بني عوف، منهم عبد
الله بن أُبَىِّ بن سلول، بعثوا إلى بني النضير سرًّا، وقالوا لهم: اثبتوا
في معاقلكم، فإنا معكم حيثما تقلبت حالكم. وإنما أرادوا بذلك أن تقوى
نفوسهم عسى أن يثبتوا، حتى لا يقدر محمد عليه الصلاة والسلام عليهم، فيتم
لهم بذلك مرادهم. وكانوا كاذبين فيما قالوا من ذلك، ولذلك لم يخرجوا حين
أخرج بنو النضير، بل قعدوا في ديارهم.
والظاهر أن المراد بـ﴿ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ عموم المنافقين، وبـ﴿ إِخوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾ عموم اليهود، ويدخل فيه يهود بني النضير دخولاً أوليًا، وهم الذين أخبر الله عز وجل عنهم في الآية الثانية من السورة بقوله:﴿
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن
دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا
أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ ﴾(الحشر: 2).
والهمزة في قوله تعالى:﴿ ألَم تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾
هي همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي، فصار الكلام إثباتًا، ومعناه
التنبيه والتعجيب من حال هؤلاء. ويمكن أن يكون المخاطب على علم بمضمون هذا
الخطاب قبل نزول هذه الآية، ويجوز أن يكون لم يعلم ذلك إلاَّ من هذه الآية.
والخطاب في ذلك ونحوه، وإن كان للنبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن المراد
به العموم، إذ هو صالح لطبقات المخاطبين. والغرض منه التحريض على النظر
والحَثِّ على زيادته. وتركيب:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى ﴾ يجرى في لسان العرب مجرى التنبيه، والتعجيب. ويقتضى معنى النظر المؤدي إلى الاعتبار؛ كما في هذه الآية الكريمة، وكما في قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾(الفرقان: 45).
وجملة:﴿ يَقُولُونَ لإِخوَانِهِمُ ﴾ استئناف
لبيان المُتعجَّب منه، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار قولهم. واللام
للتبليغ. والمراد بهذه الأخوة: إما الصداقة والموالاة. وإما التوافق في
الكفر والمعصية. فـ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾ كفار، لأنهم كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، و﴿ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ إخوانهم في الكفر، ولو أنهم يلبسون رداء الإسلام، لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
واللام في قولهم:﴿ لَئِن أُخرِجتُم ﴾ مُوَطِّئة للقسم. وجملة ﴿ لَنَخرُجَنَّ مَعَكُم ﴾ جواب القسم المغني عن جواب الشرط. وجملة ﴿ لا نُطِيعُ فِيكُم أَحَدًا ﴾ معطوفة على جملة ﴿ لَئِن أُخرِجتُم ﴾، فهي من المَقول لا من المُقسَم عليه. ومعنى ﴿ لَنَنصُرَنَّكُم ﴾: لنعيننكم في القتال. والنصر والنصرة: العون، يطلق على الإِعانة على المعادي.
وقد
أعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأنهم كاذبون في ذلك، بعد ما
أعلمه بما أقسموا عليه تطمينًا لخاطره، لأن الآية نزلت بعد إجْلاء بني
النضير، وقبل غزو قريظة، لئلا يتوجَّس الرسول صلى الله عليه وسلم خِيفةً من
بأس المنافقين، فقال تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾.
أي: لكاذبون في مواعيدهم تلك المؤكدة بالأيمان الفاجرة. وسمَّى الله تعالى
هذا الخبر شهادة، لأنه خبر عن يقين بمنزلة الشهادة التي لا يتجازف المخبر
في شأنها.
ثالثًا- أما قوله تبارك وتعالى:﴿ لَئِن أُخرِجُوا لا يَخرُجُونَ مَعَهُم وَلَئِن قُوتِلُوا لا يَنصُرُونَهُم ﴾(الحشر: 12) فهو
بيان لما قبله، وتكذيب للمنافقين في كل واحد من أقوالهم على التفصيل، بعد
تكذيبهم في الكل على الإجمال. وقد سلك في هذا البيان طريق الإِطناب، فإن
قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّهُم لَكَاذِبُونَ ﴾ جمع
ما في هاتين الجملتين، فجاء بيانه بطريقة الإِطناب لزيادة تقرير كذبهم.
وهذا تأكيد من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن المنافقين لا
يضرّونه شيئًا، لكيلا يعبأ بما بلغه من مقالتهم.
وأما قوله تعالى:﴿ وَلَئِن نَّصَروهُم لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾(الحشر: 12) فهذا على سبيل الاحتمال والتقدير. والمعنى: أنه إن حدث أن المنافقين أرادوا نصر اليهود، ﴿ لَيُوَلُّنَّ ﴾ المنافقون ﴿ الأَدبَارَ ﴾ فرارًا، ﴿ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾. أي: لا يُنْصَرُ اليهودُ بعد ذلك. فالضمير على هذا في:﴿ لَيُوَلُّنَّ الأَدبَارَ ﴾ عائد إلى المنافقين، وفي:﴿ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ ﴾ عائد إلى اليهود، إذ الكلام جارٍ على وعد ﴿ الَّذِينَ نَافَقُوا ﴾ بنصر إخوانهم ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾.
والمعنى: ولئن نصر المنافقون اليهودَ، ليولن هؤلاء المنافقون الأدبار
فرارًا، ثم لا يجد اليهود بعد ذلك من ينصرهم. والمقصود: تأييس الذين كفروا
من أهل الكتاب من النصر، وتثبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين،
وتأمينهم من بأس أعدائهم.
وقد
تحقق ما أخبرت عنه الآيتان عن هؤلاء المنافقين، فإن يهود بني النضير عندما
جَدَّ الجِّدُ، وحانت ساعة رحيلهم، أرسلوا إلى المنافقين يطلبون عونهم، فما
كان من المنافقين إلا أن خذلوهم، وتحللوا من وعودهم لهم. وهذا من باب
الإخبار بالغيب، وهو من أدلة النبوة، وأحد وجوه الإعجاز، وهذا مَبنيٌّ على
أن السورة نزلت قبل وقعة بني النضير.
رابعًا-
وبعد أن رسم الله تعالى للمنافقين تلك الصورة الموحية التي تكشف عن
حقيقتهم المزيفة، توجه عز وجل بالخطاب إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم
بهذه البشارة:﴿ لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَفقَهُونَ ﴾(الحشر: 13).
واخْتُلِف في الضمير في ﴿ صُدُورِهِمْ ﴾،
فقيل: يعود على اليهود. وقيل: يعود على المنافقين. وقيل: يعود على اليهود
والمنافقين. والظاهر أنه يعود على اليهود الذين أخبر الله تعالى عنهم بقوله:﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾(الحشر: 2)، وهم الذين أخبر تعالى عنهم في الآية السابقة بقوله:﴿ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ﴾(الحشر: 12)، ويدخل فيه يهود بني قينقاع، ويهود بني النضير، وقريظة، وخيبر دخولاً أوليًّا.
وقد
وصِفت شدَّة رهبتهم من المسلمين بأنها أشدُّ من رهبتهم من الله تعالى. ومن
المعلوم أن رهبة جميع الخلق من الله أعظم وأشد رهبة، فإذا بلغت الرهبة في
قلب أحد أن تكون أعظم وأشد من رهبة الله، فذلك منتهى الرهبة. والمقصود من
هذه الآية الكريمة تهوين أمر أولئك اليهود في نفوس المؤمنين، ليعلموا أن
عدوّهم مُرهَب منهم، وذلك مما يزيدهم إقدامًا في محاربتهم، إذ ليس سياق
الكلام للتسجيل على اليهود قلة رهبتهم لله، بل إعلام المؤمنين بأن أولئك
اليهود قد بلغ الجبن والخور فيهم مبلغًا كبيرًا لدرجة أن رهبتهم للمؤمنين
كانت أشدَّ من رهبتهم لله عز وجل.
وإسناد ﴿ أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم ﴾ إلى ضمير المؤمنين ﴿ أََنتُم ﴾
إسناد سببيٌّ، كأنه قيل: لرهبتكم في صدورهم أشد من رهبتي فيها. فالرهبة
هنا في معنى المصدر المضاف إلى مفعوله. وكل مصدر لفعل متعدٍّ يحتمل أن يضاف
إلى فاعله، أو إلى مفعوله، ولذلك فسَّره الزمخشري بأشدَّ مرهوبية. فالرهبة
على هذا واقعة منهم، لا من المخاطبين، لأن المخاطبين مرهوبون.
والرَّهْبَةُ:
مَخافةٌ مع تحرُّزٍ واضطراب، ونقيضها: الرَّغْبَةُ، وهي السلامة من
المخاوف. وقيل: الرَّهْبَةُ طول الخوف واستمراره، ومن ثَمَّ قيل للراهب:
راهبٌ، لأنه يديم الخوف، وأصلُها من قولهم: جَملٌ رَهَبٌ، إذا كان طويل
العظام مشبوحَ الخَلْق. وفي جَعْلِ الصدور مقرًّا للرهبة دليلٌ على تمكنها
منهم، وإشارة إلى أنها رهبةٌ جِدُّ خَفيَّة، لا يعلمها إلا الله تعالى، وأن
هؤلاء اليهود، مهما تظاهروا أمام المؤمنين بالبأس والقوة، فهم في قرارة
نفوسهم يخافون المؤمنين خوفًا شديدًا.
والإشارة بـ﴿ ذَلِكَ ﴾ إلى المذكور من قوله تعالى:﴿ لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ﴾. وقوله تعالى:﴿ بِأَنَّهُم قَومٌ لا يَفقَهُونَ ﴾
تعليل لرهبتهم الشديدة من المؤمنين. أي: ذلك الخوف بسبب أنهم قوم لا
يعلمون الله، ولا يفقهون عظمته، ولا يقدرونه حق قدره، ولا يعظمون كتبه، ولا
يصدقون رسله، فاستحقوا بذلك أن يلقي الله تعالى في قلوبهم الرعب والخوف،
وفي صدورهم الرهبة والخشية من جند الله المسلمين. ولو أنهم خافوا الله
تعالى، ما خافوا أحدًا من عباده، فإنما هو خوف واحد ورهبة واحدة، ولا يجتمع
في قلبٍ واحد خوفٌ من الله، وخوفٌ من شيء سوى الله، فالعزة لله جميعًا ,
وكل قوى الكون خاضعة لأمره، و﴿ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ﴾(هود: 56)، فمِمَّ يخاف- إذًا- ذلك الذي يخاف الله ? ولكن الذين لا يفقهون هذه الحقيقة يخافون عباد الله أشد ممَّا يخافون الله.
والإتيانُ بلفظ ﴿ قَوْم ﴾، ثم وصفُهم بأنهم ﴿ لا يَفقَهُونَ ﴾
يؤذن بأن عدم فقههم أمرٌ قد عرفوا به جميعًا، وصار من مقومات قوميتهم، لا
يخلو عنه أحد منهم. والفِقْهُ هو فَهْمُ ما يحتاج إلى إعمال الفكر من
المعاني الخفيَّة. وقد عرَّفه الراغب الأصفهاني في مفرداته بأنه:«
التوصُّلُ إلى علم غائب بعلم شاهد ». وعرَّفه غيره بأنه:« إدراك الأشياء
الخفية ». وهذا يعني: أنهم اتبعوا دواعي الخوف المُشاهد، وذهلوا عن الخوف
المُغيَّب عن أبصارهم، وهو خوف الله تعالى، فكان ذلك من قلة فهمهم
للخَفيَّات من الأمور، وعدم فقههم للمغيبات منها. وبهذا يكون الله تعالى قد
كشف عن حقيقة هؤلاء القوم الواقعة، وقرَّر في الوقت ذاته تلك الحقيقة
المجردة.
خامسًا- ويمضي السياق بعد ذلك، ليقرر حقيقة أخرى قائمة في نفوس هؤلاء ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾ , تنشأ من حقيقتهم السابقة , فيقول سبحانه وتعالى:﴿
لاَ يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ
وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا
وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ﴾(الحشر:
13)، وهو بدل اشتمال من قوله تعالى في الآية السابقة:﴿ لأَنتُم أشد رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ﴾،
لأن شدة الرهبة من المؤمنين، تشتمل على شدة التحصُّن لقتالهم إياهم. أي:
هؤلاء اليهود لا يبرزون لقتالكم مجتمعين متفقين إلا في قرى محصنة بالقلاع
والخنادق، يظنون أنها تمنعهم منكم، أو من وراء جُدُرٍ، يتسترون بها دون أن
يصْحَروا لكم، ويبرزوا لمواجهتكم.
واليهود لا يمكن لهم أن يعيشوا آمنين مطمئنين ﴿ إلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ ﴾(آل عمران: 112).
فأما الحبل من الله فقد قطعوه بما فعلوه هم وأسلافهم من قتل للأنبياء،
وتحريف لكتاب الله، وتكذيب لرسله. وأما الحبل من الناس فقد قطعوه بما
جُبِلوا عليه من غدر وخيانة، وسَعْيٍ دائم بالفساد وللإفساد، ولهذا فهم
يعيشون دومًا في خوف داخلي، ورعب يمتلك عليهم خلجات صدورهم. ودفعًا لهذا
الشعور المتوارث في أجيالهم يلجؤون لاتخاذ الحصون المنيعة، والكهوف
والمغارات، والجدر العازلة السميكة للتحصن بها، والعيش في حماها.
واتخاذ
اليهود الحصون المنيعة، والجدر العازلة في مواجهة أعدائهم هو فكرة
استلهموها من أفكار العهد القديم، وكانوا في الجاهلية يتفاخرون على قبائل
الجزيرة العربية بأنهم أرباب الحصون المنيعة. وحصون يهود خيبر لا يزال صدى
ذكراها يتردد عند الشعراء وأهل السير إلى يومنا هذا. وفي العصور الوسطى كان
اليهود في روسيا هم أصحاب الأحياء المحصنة التي تجمعهم ويسمونها:( الفيتو
)، لا يدخلها سواهم، ولا يعيش فيها إلا هم. وفي القرن العشرين من العصر
الحديث كان اليهود هم أصحاب خط بارليف، وبناة الجدار العنصري العازل،
والمستوطنات المحصنة على أرض فلسطين، وهي قلاع محصنة ذات أسوار محاطة
بأسلاك شائكة، وجدر إلكترونية، ونقاط مراقبة، ودوريات تدور حولها على مدار
الساعة. فكل مستعمرة صُمِّمت، لتكون بمنزلة قلعة حصينة، وقرية محصنة.
و﴿ قُرىً ﴾
جمع: قرية، وهو اسم للموضع الذي يجتمع فيه الناس. وسمِّيت القرية: قرية،
لأنها تضم من يسكنها وتجمعهم، وهي من قولك: قريت الماء في الحوض. أي: جمعته
فيه. و﴿ مُحَصَّنَةٍ ﴾. أي: مجعولة بالإحكام كالحصون المنيعة التي تمنع من دخول الأعداء. و﴿ جُدُرٍ ﴾ جمع:
جدار، وهو الحائط. إلا أن الحائط يقال اعتبارًا بالإحاطة بالمكان، والجدار
يقال اعتبارًا بالنتوِّ والارتفاع. يقال: جدرت الجدار. أي: رفعته. والجدار
يحسن الاختباء خلفه لارتفاعه. قال تعالى:﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا ﴾(الكهف: 77). قيل: ارتفاعه مائة ذراع.
وكان ينبغي أن يجمع جدار على:( جُدْران )، لا على:﴿ جُدُرٍ ﴾، لأن الأول أكثر استعمالاً من الثاني، ولكن عدل عنه إلى ﴿ جُدُرٍ ﴾،
لأن صيغة ( فُعُل ) تدل على أقصى الكثرة في العدد، بخلاف صيغة ( فُعْلان )
التي لم تستعمل في القرآن إلا للدلالة على القلة النسبية. ولما كان السياق
يصور شدة رهبة اليهود من المسلمين، لشدة حرصهم على الحياة، وذلك يتطلب
منهم أن يكثروا من بناء تلك الجدران التي يتسترون وراءها، جيء بجمع جدار
على صيغة (فُعُل ) للتعبير عن هذا المعنى. هذه الصيغة التي قال عنها
سيبويه:« أما ما كان ( فِعالاً ).. فإذا أردت أكثر العدد بنيته على:( فُعُل
)، وذلك: حِمارٌ وحُمُر، وخِمارٌ وخُمُر، وإزارٌ وأُزُر ».
وقوله تعالى:﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾ استئناف
سيق لبيان أن ما ذكر من رهبتهم، ليس لضعفهم وجبنهم في أنفسهم، فإنه يشتد
بأسهم، إذا حارب بعضهم بعضًا، ولكن لقذف الله الرعب في قلوبهم، وإلقاء
الهيبة في صدورهم، ولأن الشجاع يجبن والعزيز يذل، إذا حارب الله ورسوله.
فالبأس الشديد الذي يوصفون به، إنما يكون إذا قاتل بعضهم بعضًا. فأما إذا
قاتلوا المؤمنين، لم يبق لهم ذلك البأس.
وقوله تعالى:﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ﴾ يعني:
تحسبهم في صورتهم مجتمعين على الألفة والمحبة، وحقيقة الأمر أن قلوبهم
مختلفة، وكذا حال المخذولين لا تستقر أهواؤهم على شيء واحد. وموجب ذلك
الشتات هو انتفاء عقولهم، فهم كالبهائم لا تتفق على حالة واحدة، وهم بخلاف
من وصفهم الله تعالى بقوله:﴿ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾(الأنفال: 63).
وقرأ الجمهور:﴿ وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ﴾، بألف التأنيث، وقرأ عبد الله بن مسعود:﴿ وَقُلُوبُهُمْ أَشْتَات ﴾.
والفرق بينهما: أن الأولى تدل على معنى الاختلاف المقابل للائتلاف، وأن
الثانية تدل على معنى التفرق المقابل للتجمع. وكلا اللفظين مأخوذ من
الشَّتِّ، وهو التفرق والاختلاف. يقال: شّتَّ جمعهم شّتًّا وشتاتًا، ويقال:
أهواؤهم شتَّى. أي: مختلفة. قال تعالى:﴿ فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى ﴾(طه: 53). أي: مختلفة الأنواع. ويقال: ذهبوا أشتاتًا، كلٌّ في جهة. قال تعالى:﴿ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا ﴾(الزلزلة: 6). أي: متفرقين، كل يذهب في جهة.
والإشارة بـ﴿ ذلِكَ ﴾ إلى تشتت قلوبهم، واختلاف أهوائهم. أي: ذلك الاختلاف ﴿ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ﴾ شيئًا، حتى يعلموا طرق الائتلاف وأسباب الاتفاق، وهذه حال الجماعات المتخاذلة، وهي المغلوبة أبدًا في كل ما تحاول.
وقال تعالى في الآية السابقة:﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفقَهُونَ ﴾، فسلب عنهم الفقه. وقال هنا:﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ﴾، فسلب عنهم العقل. والسرُّ أن الأول متصل بقوله تعالى:﴿ لأَنتُم أَشَدُّ رَهبَةً في صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ﴾(الحشر: 13)، فهم يرون الظاهر ولا يفقهون علم ما استتر عليهم. أما الثاني فمتصل بقوله تعالى:﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ﴾(الحشر:14).
أي: لو كانوا من أهل البصيرة والإيمان لعقلوا، ولو عقلوا لاجتمعوا على
الحق ولم يتفرقوا. والآية الكريمة كناية عن مصير اليهود إلى الهزيمة، إذ ما
حورب قوم في عُقْرِ دارهم إلا ذلُّوا. وهذا من أعظم الذم لهم، فهم لا
يثبتون على قتال المسلمين ولا يعزمون عليه، إلا إذا كانوا متحصنين في
القرى، أو من وراء الجدر والأسوار، معتمدين على حصونهم وجدرهم، فهم لا
يقدرون على المواجهة المباشرة. وهذه حقيقة أيدتها التجارب والمشاهد
الواقعية، وتاريخ اليهود وحاضرهم شاهد على ذلك. وما تزال الأيام تكشف حقيقة
الإعجاز في تشخيص حالة اليهود، حيثما التقى المؤمنون بهم في أي زمان، وفي
أي مكان، بشكل واضح للعيان. ولقد شهدت الاشتباكات الأخيرة في الأرض المقدسة
بين المؤمنين الفدائيين، واليهود مصداق هذا الخبر بصورة عجيبة، فما كانوا
يقاتلونهم إلا في المستعمرات المحصنة، ومن وراء الجدر. فإذا انكشفوا لحظة
واحدة، ولُّوا الأدبار كالجرذان، حتى لكأن هذه الآية نزلت فيهم ابتداء..
وسبحان العليم الخبير !
وتبقى الملامح النفسية الأخرى:﴿ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ﴾، ﴿ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتّى ﴾،
على خلاف المؤمنين الذين تتضامن أجيالهم , وتجمعهم آصرة الإيمان من وراء
فواصل الزمان والمكان , والجنس والوطن والعشيرة. والمظاهر قد تخدع فنرى
تضامن الذين كفروا من أهل الكتاب فيما بينهم , ونرى عصبيتهم بعضهم لبعض،
ولكن الخبر الصادق من السماء يأتينا بأنهم ليسوا كذلك في حقيقتهم ; إنما هو
مظهر خارجي خادع. وبين الحين والحين ينكشف هذا الستار الخداع، فيبدو من
ورائه صدق الخبر في دنيا الواقع المنظور , وينكشف الحال عن نزاع في داخل
المعسكر الواحد , قائم على اختلاف المصالح الأهواء وتصادم الاتجاهات. وما
صدق المؤمنون مرة , وتجمعت قلوبهم على الله حقًا، إلا وانكشف المعسكر الآخر
أمامهم عن تلك الاختلافات وذلك التضارب وذلك الرياء الذي لا يمثل حقيقة
الحال. وما صبر المؤمنون وثبتوا، إلا وشهدوا مظهر التماسك بين أهل الباطل
يتفسخ وينهار وينكشف عن الخلاف الحاد والشقاق والكيد والدس في القلوب
الضعيفة المتفرقة !
إنما
ينال الذين كفروا من أهل الكتاب وغيرهم من المسلمين عندما تتفرق قلوبهم ,
فلا يعودون يمثلون حقيقة المؤمنين التي عرضتها الآية في المقطع السابق في
هذه السورة. فأما في غير هذه الحالة فالكفار مختلفو الأهواء والمصالح
والقلوب. والقرآن يُقِرُّ هذه الحقيقة في قلوب المؤمنين، ليهوِّن فيها من
شأن أعدائهم، ويرفع منها هيبة أولئك الأعداء ورهبتهم، فهو إيحاء قائم على
حقيقة وتعبئة روحية ترتكن إلى حق ثابت. ومتى أخذ المسلمون قرآنهم مأخذ
الجد، هان عليهم أمر عدوهم وعدو الله , وتجمعت قلوبهم في الصف الواحد , فلم
تقف لهم قوة في الحياة. والمؤمنون بالله ينبغي لهم أن يدركوا حقيقة حالهم،
وحال أعدائهم، فهذا نصف المعركة. والقرآن العظيم يطلعهم على هذه الحقيقة
في سياق وصفه لحادث وقع , وفي سياق التعقيب عليه , وشرح ما وراءه من حقائق
ودلائل شرحًا يفيد منه الذين شهدوا ذلك الحادث بعينه، ويتدبره كل من جاء
بعدهم , وأراد أن يعرف الحقيقة من العالم بالحقيقة !
سادسًا-
وبعد أن شخَّص الله عز وجل حالة الذين كفروا من أهل الكتاب، وأقرَّها في
قلوب المسلمين، مثَّل سبحانه تلك الحالة بمثلين زيادة في تثبيت المؤمنين،
وفى التهوين من شأن أعدائهم، فقال جل وعلا:
﴿
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم * كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسانِ
اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ
رَبَّ العَالَمِينَ ﴾(الحشر: 15- 16).
وهما مثلان لممثَّل واحد، وهو ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾، إخوان
المنافقين في الكفر والمكر والخداع، وهو عام في اليهود، ويدخل فيه يهود
بني النضير، وبني قينقاع، وبني قريظة دخولاً أوليًا. وقد سبق أن ذكرنا أنه
كان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بعد وقعة
بدر بسُوقهم قبل إجلائهم، ثم قال:« يا معشر يهود !
احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلِموا، فإنكم قد عرفتم أني
نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم »، وأنه عليه
الصلاة والسلام قال في يهود بني النضير بعد إجلائهم:« هؤلاء في قومهم
بمنزلة بني المغيرة في قريش »، فهؤلاء اليهود وأمثالهم هم المُمَثَّل لهم
بهذين المثلين:
المثل الأول: أما المثل الأول، ﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم ﴾،
فقد شبَّه الله عز وجل فيه حالهم بمثل من أهلكوا من قبلهم من كفار قريش
يوم بدر، وغيرهم ممَّن سبقهم من الكفار، وأهلكوا بسبب كفرهم. فهؤلاء
المُهلَكون الذين ذاقوا وبال أمرهم هم مثلٌ لليهود، وهم أصلٌ، واليهود فرعٌ
قيس على ذلك الأصل. والفرعُ مشبَّه، والأصلُ مشبَّه به، وما بينهما وجه
شَبِهٍ دلت عليه كاف التشبيه، وهو أن الجميع اغتروا بمالهم وقوتهم،
فتطاولوا على المؤمنين، ونقضوا عهودهم معهم، فكانت عاقبتهم جميعًا أن أذلهم
الله تعالى في الدنيا، وتوعدهم في الآخرة بأشد أنواع العذاب.
والمراد:
أن حال هؤلاء اليهود المركبة من التظاهر بالبأس، مع إضمار الرَّهْبة من
المسلمين، ومن خذلان المنافقين إياهم عند الحاجة، ومن أنهم لا يقاتلون
المسلمين إلا في قرى محصَّنة أو من وراء جدر، ثم معاقبتهم بالجلاء والقتل،
كَمثل الذين عَصَوْا من قبلهم من الكفار والمشركين، فذاقوا سوءَ كفرهم
وعصيانهم في الدنيا، ولهم في الآخرة- زيادة على ذلك- عذاب أليم ينتظرهم.
فالتمثيل هنا بين وجودين: الأول خارجي، وهو المشار إليه بقوله تعالى:﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾. والثاني ذهني، وهو المشار إليه بقوله تعالى:﴿كَمَثَلُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾. ولو أريد به قومًا بعينهم، لجيء به مجردًا من لفظ المثل، ولكان نظم الكلام هكذا:﴿ كالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، كما قال تعالى في موضع آخر:﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ ﴾(الأنفال: 47)، ولكن المجيء بلفظ { مثل } بين كاف التشبيه، والموصول دلَّ على أن المراد بـ﴿ مَثَل الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾ المُهلَكون من الأمم الماضية، من قوم نوح- عليه السلام- إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء ﴿ قَرِيبًا ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾.
وقد دلَّ على هذا المعنى قوله تعالى:﴿ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، لأن ﴿ قَبْلُ ﴾
ظرف مستعمل في التقدُّم الزماني المتصل، وتعيَّن ذلك بدخول { من } عليه،
فإنها لابتداء الغاية، فأفاد وجودها أن قَبْليَّة المُمَثَّل بهم قَبْليَّة
متصلة من حيث الوجود الزماني بالمُمَثَّل. ويستعمل ﴿ قَبْلُ ﴾ بدون { من } في التقدُّم الزماني المنفصل، كما في قول الله عز وجل:﴿ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ ﴾(يس: 31). أي: قبلهم بزمن غير معين. ومن الغريب بعد هذا أن نجد من المفسرين من يقول بأن { من } هذه زائدة لتأكيد ارتباط الظرف بعامله.
ويتعيَّن على هذا تعلُّقُ ﴿ قَرِيبًا ﴾ بقوله تعالى:﴿ ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾،
وهي جملة مفسرة للمثل. والمعنى: ذاقوا وبال أمرهم في زمن قريب من كفرهم
وعصيانهم. والوَبَالُ يقال للأمر الذي يخاف ضرره، وأصله: وَخامة المرعى
المستلذ به للماشية. يقال: كلأ وبيل، إذا كان مَرعًى خَضِرًا حلوًا تهشُّ
إليه الإِبل، فيُحبِطها ويمرِضها، أو يقتلها. فشُبِّهوا في إقدامهم على حرب
المسلمين مع الجهل بعاقبة تلك الحرب بإبل ترامت على مرعى وبِيل، فهلكت.
وأمرهم: شأنُهم، وما دبّروه وحسبوا له حسابه، وذلك أنهم أوقعوا أنفسهم فيما
أصابهم. وإسناد الذوق إلى الأمر على طريقة الاستعارة. والذوق هو وجود
الطعم في الفم، وأصله فيما يقلُّ تناولُه دون ما يكثُر، فإن ما يكثُر يقال
له: الأكل.
واختير
في القرآن لفظ الذوق في العقاب والعذاب، لأن ذلك، وإن كان في المتعارف
للقليل، فهو مستصلَح للكثير، فخُصَّ بالذكر، ليعمَّ به الأمرين. وكثر
استعماله في العذاب، كما في قوله تعالى:﴿ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾( آل عمران: 106). وقد جاء في الرحمة، ومنه قوله تعالى:﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ﴾(هود: 9).
وأما جملة:﴿ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيم ﴾ فقيل: معطوفة على جملة:﴿ ذاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾، وإن اختلفتا فعلية، واسمية. وقيل: حال مقدرة من ضمير ذاقوا. وأيًّا ما كان فهي داخل المثل.
المثل الثاني: وأما المثل الثاني،
﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ *
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا
وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾، فقد شبَّه الله تعالى فيه حالهم بمثل الشيطان مع الإنسان الذي يستجيب لإغرائه، فينتهي وإياه إلى شر مصير.
وصورة
الشيطان هنا، ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان , تتفقان مع طبيعته
ومهمته، كما تتفقان مع طبيعة اليهود ومهمتهم في كل زمان ومكان، وهي حقيقة
دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة، فيربط بين
الحادث المفرد، والحقيقة الكلية في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق
المجردة في الذهن. فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر , ولا
تستجيش القلوب للاستجابة، وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب ,
ومنهج البشر !
وقد
سبق أن ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج يهود بني النضير من ديارهم،
لأنهم نقضوا عهدهم معه، وتآمروا على قتله، وكان قد أخرج من قبلهم بني
قينقاع، ولم يبق في المدينة المنورة من اليهود سوى بني قريظة، وكانوا أشد
اليهود عداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأغلظهم كفرًا، ولذلك جرى
عليهم ما لم يجر على إخوانهم. وكان سبب غزوهم أنه خرج عشرون رجلاً منهم قبل
غزوة الخندق، ومعهم آخرون من بني النضير إلى مكة، وأخذوا يحرضون قريشًا
على قتال النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: نحن معكم ننصركم من الداخل
ومن الخارج، وذهبوا إلى غطفان، وقالوا: انصروا قريشًا على محمد، وذهبوا إلى
قبائل العرب يحرضونهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم
كان من خبر حُيَيّ بن أخطب بعد غزوة الخندق أن جاء إلى بني قريظة في
ديارهم، فقال قد جئتكم بعز الدهر، جئتكم بقريش على سادتها، وغطفان على
قادتها، وأنتم أهل الشوكة والسلاح، فهلُمَّ حتى نناجز محمدًا ونفرغ منه.
فقال له رئيسهم: بل جئتني، والله بذل الدهر. جئتني بسحاب قد أراق ماءه، فهو
يرعد ويبرق. فلم يزل حُيَيٌّ يخادعه ويعده ويمنِّيه، حتى أجابه بشرط أن
يدخل معه في حصنه، يصيبه ما أصابهم، ففعل. ونقضوا عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وأظهروا سبَّه، فسار إليهم في موكبه من المهاجرين والأنصار،
يتقدمه جبريل- عليه السلام- في موكبه من الملائكة، يزلزل الأرض من تحت
أقدامهم، ويلقي في قلوبهم الرعب. وكانت نهايتهم جميعًا القتل بعد حصار دام
خمسًا وعشرين ليلة. وكان من خبر مقتل حُيَيّ بن أخطب أنه أُتِيَ به، مجموعة
يداه إلى عنقه بحبل. فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أما
والله، ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله، يخذل. ثم أقبل على
الناس، فقال: أيها الناس ! إنه لا بأس بأمر الله، كتاب وقدر وملحمة كتبها
الله على بني إسرائيل، ثم جلس، فضربت عنقه.
فهؤلاء اليهود، في تزيينهم الشر والفساد للناس، وتحريضهم على قتال المسلمين، ﴿
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ للإنْسانِ اكْفُرْ ﴾، ﴿ فَلَمَّا كَفَرَ
قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ﴾، ﴿ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾.
وقوله تعالى:﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ﴾ خبر ثان للمبتدأ المقدر قبل المثل الأول، مبيِّن لحال اليهود، متضمن لحال أخرى دائمة غير الحالة الأولى، كأنه قيل:﴿الَّذِينَ كَفَرُوا مِن أَهلِ الكِتَابِ ﴾، ﴿ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾، في حلول العذاب بهم، ﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ ﴾،
في إفساده في الأرض، وإغرائه الإنسان بالكفر، وتحريضه على المعصية. وذهب
بعضهم إلى أن المراد بالشيطان إبليس، استغوى قريشًا يوم بدر وقال لهم:﴿ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ﴾، فلما رأى الملائكة رجع القهقرى، وقال:﴿ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾(الأنفال: 48).
أما قول الشيطان للإنسان ﴿ اكْفُرْ ﴾ فالمراد به: أنه أغراه على الكفر إغراء الآمر للمأمور به. وأما قوله:﴿ إِنّي بَرِيءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ العَالَمِينَ ﴾
فإنما هو على سبيل الرياء، إذ ليس على ذلك عقيدته، لأنه لا يعرف الله حق
معرفته، ولا يمنعه الخوف عن سوء يوقع ابن آدم فيه. وقيل: تبرأ منه مخافة أن
يشاركه في العذاب، ولم ينفعه ذلك، كما قال تعالى:﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ﴾.
وهذا من تمام المثل. أي: كان عاقبة الممثَّل بهما، وهما: الشيطان
والإنسان، خسرانهما معًا، وكذلك تكون عاقبة الفريقين الممثلين أنهما خائبان
فيما دبَّرا، وكادا للمسلمين.
وقرأ الجمهور:﴿ عَاقِبَتَهُمَا ﴾، بنصب التاء. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وسليم بن أرقم:﴿ عَاقِبَتُهُمَا ﴾، برفع التاء، على أنه اسم ﴿ كَانَ ﴾، وخبرها:﴿أَنَّهُمَا فِي النَّارِ ﴾، على عكس قراءة الجمهور. وقراءة الجمهور أقوى، لأن كون اسم كَانَ مصدرًا مؤوَّلاً أبلغ من كونه اسمًا صريحًا.
وقوله تعالى:﴿ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾ تذييل، والإِشارة إلى ما يدل عليه قوله تعالى:﴿ فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا ﴾ من معنى. أي:﴿وَذَلِكَ﴾ الخلود في النار ﴿ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ﴾.
أي: الكافرين الذين تجاوزوا حدود الله تعالى، وحاربوا رسله. فكما كانت
عاقبة الشيطان والكافر عاقبة سوء، كذلك تكون عاقبة المُمَثَليْن بهما، وقد
اشتركا في الظلم.
بقلم: محمد إسماعيل عتوك