-->
أخبار الجزائر والعالم أخبار الجزائر والعالم

حوار مع الكاتب الفلسطيني الكبير محمود شقير

الكاتب محمود شقير يتحدث..
"ثورة الجزائر ألهمتنا.. ووضعنا لا يسر البال"
محمود شقير
* ثلاثية أحلام مستغانمي بها جرعة شعرية زائدة
* تعرّضت للاعتقال واحتجزت في السجون الصهيونية وفُرضت عليّ إقامة جبرية
* ما زلت غير قادر على التخلّص من أسر رواية "فرس العائلة"
* لا أحب العيش في أي مدينة سوى القدس
* المسؤولية الأكبر في الانقسام الفلسطيني تقع على عاتق حماس
* قطر والسعودية استغلتا "الربيع العربي" لتعزيز نفوذهما
* أتمنى حلّا سياسيا للأزمة السورية..
أقام في عدد من بلدان العالم، وسحرته العديد من المدن، ولكنه لم يعد يهوى الحياة في غير "زهرة المدائن"، القدس، التي ولد فيها قبل سبع سنوات من نكبة 1948 التي يقول أنها مازالت مستمرة حتى الآن.. قرأ لكاتب ياسين، وأعجبته كثيرًا روايته "نجمة" وقرأ للطاهر وطار، وأحبّ روايته "عرس بغل".. وقرأت لواسيني الأعرج، وأحبّ لغته المتقنة وسرده الروائي الذي تخالطه لغة الشعر بقدر محسوب.. قرأ كذلك لأحلام مستغانمي.. لزينب الأعوج وربيعة الجلطي وآسيا علي موسى، ولعدد من الكاتبات والكتاب الجزائريين الشباب.. إنه الكاتب الفلسطيني الكبير محمود شقير الذي فتح قلبه لـ"أخبار اليوم"، ليتحدث في هذا الحوار عن شؤون أدبية وقضايا فلسطينية ومواضيع عربية مختلفة...
أجرى الحوار: الشيخ بن خليفة
ـ وُلدت قبل النكبة بسبع سنوات.. وسرقوا منك وطنك قبل أن تشّب، الآن وقد تخطيت شبابك وغزا الشيب شعرك.. ما الذي بقي في ذهنك من رواسب ماضي النكبة ونكبة الماضي؟
وهل تعتقد أنه كان بالإمكان أفضل مما كان؟
* بقي الكثير في ذهني من ماضي النكبة، وذلك لسبب بسيط هو أن النكبة ما زالت مستمرّة حتى الآن. تلك المأساة ما زالت تفعل فعلها في واقع الشعب الفلسطيني، فهي التي أنجبت هزيمة حزيران ـ يونيو 1967، وأنجبت كل المآزق التي تعرّض لها الشعب الفلسطيني، وحجبت تطوّرنا الطبيعي، وما زلنا بسببها نرسف في قيود المحتلين الصهاينة، وما زالت ملايين عدّة من الشعب الفلسطيني تعيش مشردة في المنافي، مغتربة عن جذورها وعن مكانها الأول.
ولأنّ المأساة المروّعة وقعت، فليس ينفعنا التأسي على ما فات، مع ذلك، فإنني أعتقد أن طبيعة التركيب الطبقي للمجتمع الفلسطيني آنذاك، وطبيعة القيادة التقليدية التي كانت تقود النضال، والوضع العربي المتهالك التابع للاستعمار وللقوى الأجنبية ما كان يمكن أن يعطينا نتائج أفضل، وذلك لأن الهجمة الصهيونية المدعومة من الإمبريالية البريطانية كانت أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني على المواجهة.
ورغم ذلك، كان يمكن تخفيف حجم المأساة، وكان يمكن منع تشريد الآلاف من أبناء شعبنا من وطنهم لو قبلنا قرار التقسيم الذي ينص على إقامة دولتين واحدة للفلسطينيين فيها عشرة آلاف يهودي، والثانية لليهود، نصف مواطنيها من الفلسطينيين. علمًا بأن قبول الحركة الصهيونية بهذا القرار كان من قبيل المناورة واللعب على عنصر الوقت.


ـ واجهت، كغيرك من أبناء فلسطين، صنوفا من الظلم الصهيوني.. ما كان أقصى وأقسى ما تعرضت إليه؟
* تعرّضت للاعتقال الإداري مرّتين، واحتجزت في السجون الإسرائيلية حوالي سنتين، وفرضت عليّ إقامة جبرية في القدس العام 1972 استمرت أكثر من عام. واختفيت حين شنّ المحتلون حملة اعتقالات ضد النشطاء السياسيين في الأرض المحتلة، إبّان حرب تشرين ـ أكتوبر ـ العام 1973، ولم يقبضوا علي إلا بعد أشهر عدّة، لكنهم أطلقوا سراحي بعد ساعات، ثم قاموا باعتقالي مع المئات من المناضلين الفلسطينيين في العام 1974 وبإبعادي من الوطن في العام 1975، وبقيت في المنفى ثماني عشرة سنة، عدت بعدها إلى القدس، وما زلت مقيمًا فيها حتى الآن.
ويمكن القول إن ما تعرّضت له على أيدي سلطات الاحتلال الإسرائيلي يعتبر أمرًا هيّنًا إذا ما قورن بمن استشهدوا تحت التعذيب، ومن حُكموا في السجون مدى الحياة، ومن هدمت بيوتهم وغير ذلك من إجراءات تعسفية إسرائيلية.

ـ بعد 65 سنة من النكبة.. كيف تشعر كمقدسي أولا، وكمبدع فلسطيني ثانيا حيال حاضر ومستقبل القضية؟
وهل مازال الأمل ممكناً في أن يحرر المسلمون قبلتهم الأولى من رجس بني صهيون؟
* لن أضيف جديدًا إذا قلت إن حاضر القضية الفلسطينية لا يسرّ البال. فثمة انقسام يسهم في إضعاف النضال الوطني الفلسطيني على كلّ صعيد. وفي الوقت نفسه، ثمة تنكّر إسرائيلي معلن للحقوق الوطنية الفلسطينية، ويواصل اليمين الإسرائيلي المتطرف الحاكم في إسرائيل سياساته القمعية ضد الشعب الفلسطيني، ويمعن في تحويل إسرائيل بخطوات متسارعة إلى دولة عنصرية، ويشجع المستوطنين على ارتكاب اعتداءات متكرّرة ضد الفلسطينيين، فيها تطاول على كرامتهم وعلى أمنهم الشخصي، ويتعرض ما تبقى من الأرض الفلسطينية للنهب وللمصادرة بهدف توسيع المستوطنات الحالية وإقامة مستوطنات جديدة عليها، ولإجبار الفلسطينيين في النهاية على العيش في معازل محاصرة، مقطّعة الأوصال.
في مثل هذه الأحوال، من المنطقي أن ينظر الفلسطينيون إلى العرب والمسلمين وكل قوى الحرية في العالم لإسنادهم في نضالهم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، ولتحرير أرضهم وانتزاع حقهم في العودة والحرية وتقرير المصير والاستقلال الوطني، وذلك لأن عبء التحرير لا يستطيعه الفلسطينيون وحدهم، بالنظر إلى ما لدى عدوّهم من قدرات عسكرية وغير عسكرية، وبالنظر إلى الدعم غير المحدود الذي تتلقاه دولة العدو من الولايات المتحدة الأمريكية، هذا الدعم الذي يؤجج نزعة التطرف لدى حكام إسرائيل، ويغذي الأطماع التوسعية والرغبة في الهيمنة على المحيط العربي، بحيث تلتقي المصالح الأمريكية مع سياسات التوسع الإسرائيلي، وبحيث تواصل إسرائيل تأمين الدور المطلوب منها باعتبارها قاعدة متقدمة للدفاع عن المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
ولا بد من التنبيه إلى مسألة مهمة في هذا الصدد مؤدّاها أن الشعب الفلسطيني يظلّ هو العنصر الأساس في التصدي للاحتلال، لأن صمود هذا الشعب، واختياره أساليب النضال التي تضمن بقاءه فوق أرضه، سوف يسهم في منع المحتلين من إدامة أمد احتلالهم، ما يفسح في المجال لتحقيق الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني طال الزمان أم قصر.


ـ كيف يتعاطى أبناء القدس مع سياسة التهويد التي توشك أن تجعل القدس مدينة يهودية 100 بالمائة؟ وبماذا تشعر والقدس تتعرض للاغتصاب الصهيوني الدائم؟
* ثمة إجراءات تهويدية تقع فوق طاقة أبناء القدس على تعطيلها وإبطال تأثيرها. أقصد ما تقوم به سلطات الاحتلال من مشروعات هدفها تغيير المشهد العمراني من خلال تشييد البنايات وإنشاء شبكة طرق وأنفاق ووسائل مواصلات، وإقامة حدائق ومحال تجارية وفنادق حول المدينة، والحفر وشقّ الأنفاق تحت البلدة القديمة وتحت المسجد الأقصى ما يهدد بتعريضه لخطر الانهيار، وكذلك الاستمرار في إقامة البؤر الاستيطانية داخل المدينة وتطويقها من الخارج بالمستوطنات وبالجدار العازل، وفصلها عن محيطها الفلسطيني. في الوقت نفسه تقوم هذه السلطات بفرض ضرائب باهظة على المقدسيين، وبهدم بيوتهم تحت حجج واهية، وبحرمانهم من الحصول على رخص بناء، لخلق ضائقة سكنية قد تتسبّب في هجرة الشباب الذين لا يجدون مأوى لهم في المدينة.
غير أن هذه الأجيال في معظمها لا تغادر المدينة رغم الصعوبات، ويعرف أبناء القدس جيدًا أن بقاءهم في مدينتهم وصمودهم فيها يشكّل العنصر الأساس لإعاقة عملية التهويد، فمنذ سنوات تخطط سلطات الاحتلال لتقليص عدد سكان القدس الفلسطينيين إلى ما نسبته 12 بالمائة من مجموع سكان المدينة اليهود والفلسطينيين، في حين أن الواقع الحالي يشير إلى أن نسبة المقدسيين في مدينتهم تساوي 38 بالمائة من مجموع السكّان.
ومع ذلك، فإن الركون إلى العنصر البشري وحده لا يكفي، لأن الخطوات المنهجية التي ينفّذها الإسرائيليون آخذة في التأثير شيئًا فشيئًا على حاضر المدينة وعلى مستقبلها.

ـ كيف تفاعلت كمبدع فلسطيني مع ما سمي بثورات الربيع العربي؟
ولماذا لم نشهد "ربيعا فلسطينيا" ـ أو عربيا ـ ضد الصهاينة؟
* رحّبتُ منذ البداية بثورات الربيع العربي، وأيّدتُ طابعها السلمي وطموحها إلى تغيير الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة التي حوّلتْ بلدانها إلى مزارع خاصة بها وبأتباعها من النخب الفاسدة، وأمعنتْ في إهانة كرامة المواطنين وفي إساءة توزيع الدخل القومي بين طبقات المجتمع.
ومما يدعو للأسف، أن الطابع السلمي للثورات لم يستمر بسبب إقدام الأنظمة على استخدام العنف المسلح لإسكات الناس، ما تسبب في استدراج الثورات إلى استخدام السلاح أو استقدام قوى أجنبية لحسم الصراع، وما دفع بعض القوى السياسية إلى القفز على السلطة والانفراد بها من دون تقديم بدائل اقتصادية واجتماعية مقنعة.
ولم يعد خافيًا أن قوى حاكمة في المنطقة مثل قطر والسعودية، عملت بوسائل عدة لتعزيز نفوذها في بعض بلدان الربيع العربي ليس لخدمة أهداف الجماهير، وإنما لاستبدال طغاة بطغاة، ولحرف الثورات عن مسارها الذي يفترض فيه أن ينتج أنظمة جديدة مؤمنة بالديمقراطية وبالعدالة الاجتماعية وبالعداء للمصالح الإمبريالية وللاحتلال الإسرائيلي. يضاف إلى ذلك أن ثمة قوى أجنبية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وبعض البلدان الأوروبية عملت وما زالت تعمل على التحكم في مسار الثورات على نحو يسيئ إليها ويأخذها بعيدًا من أهدافها الصحيحة، ويرسخ التبعية للمراكز الإمبريالية، فيبقى الحال على حاله وكأن شيئًا لم يكن.
وبغضّ النظر عن كل هذه السلبيات، فإن ما وقع كان يجب أن يقع، لأن السكوت على الظلم لا يجوز، وانتفاضات الشعوب لها كلّ الحق في المطالبة بالحرية والعدالة واحترام كرامة الإنسان وتحقيق المواطنة على أكمل وجه. والمطلوب الآن تصحيح المسار وتنقية الثورات مما رافقها من ظواهر غريبة عنها، وهذا الأمر لن يتحقق في يوم وليلة، وسوف يستغرق إنجازه كما أعتقد بضع سنوات.
وأما بخصوص الشق الثاني من سؤالك، فالصحيح أن الشعب الفلسطيني يواصل مقاومته للاحتلال الإسرائيلي من دون توقّف. صحيح أن وتيرة هذا النضال أصبحت منخفضة بسبب الانقسام وغيره من العوامل التي لها علاقة بالسياسات اليومية للسلطة الفلسطينية، وببعض مظاهر الترهل التي تسود في أوساط الحركة الوطنية الفلسطينية، وكذلك بفعل المظاهر السلبية التي أحدثتها أموال المانحين التي لم تمنح لنا من أجل سواد عيوننا، وإنما في الغالب الأعم من أجل أهداف مشبوهة، من أبرزها إضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية باستدراج خيرة كوادرها إلى ميادين بعيدة من ساحة النشاط السياسي الوطني الفعال.
كنت أتوقّع أن تسفر ثورات الربيع العربي عن تحفيز النضال العربي من أجل القضية الفلسطينية، لكن الجماهير العربية وقواها السياسية مشغولة هذه الأيام في تثبيت أهدافها المشروعة في مجتمعاتها، وهذا من حقها بطبيعة الحال، وأعتقد أن انتباهها إلى معاناة الفلسطينيين وإلى قضيتهم العادلة لن يتأخر كثيرًا.

ـ قالت بعض المصادر أن كثيرا من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين بسوريا اضطروا إلى "الهروب" منها والعودة إلى الأراضي المحتلة.. إلى أي مدى أضرت الحرب الدائرة بسوريا بفلسطين والقضية الفلسطينية؟
* لم يعد أحد من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في سوريا إلى الأراضي المحتلة. هذا أمر غير ممكن بسبب إجراءات المحتلين الإسرائيليين على المعابر الحدودية. وأنا أشعر بالأسى لما يعانيه الشعب العربي السوري الآن سواء أكان ذلك في المدن السورية والقرى التي طالها الدمار، أم في مخيمات اللجوء في عدد من البلدان المجاورة لسوريا. وأنا أشعر بالأسى أيضًا لما عاناه ويعانيه اللاجئون الفلسطينيون في مخيم اليرموك وغيره. وأتمنى ألا تحاول أية قوى فلسطينية أو غير فلسطينية الزجّ بالفلسطينيين في الصراع الدائر حاليًّا في سوريا. أتمنى كذلك ألا يجري الزجّ بالمخيمات الفلسطينية في لبنان في أية محاولات لإثارة الفتنة في هذا البلد الذي عانى كثيرُا من الحروب.
ما أتمناه فعلاً، أن يتوقّف العنف في سوريا من جانب المعارضة، ومن جانب النظام الحاكم، وأن تتوقّف التدخلات الأجنبية والإقليمية في الشأن السوري، وأن يجري البحث عن حلّ سياسي تتحقّق بموجبه أهداف الشعب السوري وتطلّعاته التي انتفض سلميًّا من أجلها، وأن تجري المحافظة على الوطن السوري بعيدًا من التجزئة والتفتيت، وأن تتوقّف إلى الأبد محاولات تعريض الأقليات للخطر، وإذكاء الصراع الطائفي وافتعال قتال دموي لا معنى له بين السنة والشيعة.
وفي ظل صعوبة تحقيق أيّ حلّ سياسي حتى الآن في سوريا، فإن البديل هو استمرار سفك الدماء وترويع المواطنين السوريين، وإجبارهم على التحول إلى لاجئين، وتعريضهم للبؤس والذل والهوان، وهو أمر لا يليق بكرامة السوريين. وأعتقد أن تطبيق الحل اليمني، إنْ أمكن، على الحالة السورية، حيث يبدأ بتنحي الرئيس، وبتشكيل حكومة وحدة وطنية انتقالية، قد يشكّل مخرجًا من الأزمة المستعصية التي طالت وحصدت أرواحًا كثيرة مع الأسف الشديد.
وبلا شك، فإن أية صراعات طائفية في أي مجتمع عربي تعتبر إضعافًا لهذا المجتمع وللقضية الفلسطينية سواء بسواء، وفيها تخريب لكلّ الجهود المبذولة من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومن أجل الدولة المدنية التي يعيش فيها المواطن حرًّا كريمًا مهما كان دينه ومعتقده.

ـ كمثقف فلسطيني بماذا تفسر انقسام النخب السياسية الفلسطينية وعجزها عن رص الصفوف رغم كل التحديات؟
*الانقسام وقع كما تعلم بعد أن تفاقم الصراع بين حركتي فتح وحماس. ولا ريب أن كلاً من الحركتين تتحمّل قسطًا من المسؤولية عن هذا الانقسام. لكنّ المسؤولية الأكبر تقع على عاتق حماس التي بادرت إلى الخروج على قواعد النظام السياسي الفلسطيني بالاحتكام إلى السلاح، لحسم خلاف متشعّب سببه بعض أجهزة فتح وبعض البيروقراطيين فيها الذين لم تعجبهم نتائج الانتخابات التي أتت بحماس إلى السلطة.
إلى ذلك، أعتقد أن الرغبة في الهيمنة على الحكم وعلى المجتمع، واختلاف البرامج السياسية بين حماس وفتح من العوامل التي أدّت وتؤدّي إلى استمرار الانقسام. فتح لديها برنامج سياسي واقعي أقرّته منظمة التحرير الفلسطينية في مجلسها الوطني الذي انعقد في الجزائر العام 1988: برنامج الدولة الفلسطينية على الأرض المحتلة العام 1967 وعاصمتها القدس، وحماس لديها برنامج التحرير من البحر إلى النهر. علمًا بأن تصريحات تصدر بين الحين والآخر من بعض قادة حماس تتضمّن الموافقة على إقامة دولة فوق أراضي 1967، على أن يكون هذا حلاً مرحليًّا.
أعتقد أن من واجب فتح وحماس الكفّ عن منهج الشمولية في ممارسة الحكم، وعن منطق المحاصصة الذي أنتج حتى الآن مزيدًا من الإخفاق في التوصّل إلى إنهاء الانقسام، ولا بد من وضع أسس جديدة لشراكة وطنية لا تستثني أحدًا، ولا تمكّن أحدًا من ممارسة سياسة الإقصاء والتفرّد في الحكم.

ـ هل بقي للشعر والأدب عموما طعم في زمن القتل والتشريد والحروب الأهلية والطائفية، وأي دور يمكن أن يلعبه الأدب في إنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
* للأدب دور مهمّ يمكنه أن يؤديه في زمن القتل والتشريد والحروب الأهلية والطائفية. فالأدب الجيد المرتبط بهموم الناس، ذو النزعة الإنسانية قادر على ترقية المشاعر وتخليصها من التعصّب والتزمّت، وهو قادر على تربية الوجدان على القيم الصحيحة، قيم التسامح واحترام الرأي والرأي الآخر، ورفض الطائفية والاحتراب الطائفي والقتل على الهوية وعلى الانتماء الديني. وبإمكان الأدب أن يسهم في الترويج بشكل غير مباشر وبوسائط الأدب نفسه للديمقراطية وللتعايش بين الأفكار المختلفة من دون إغفال أو تهميش.
غير أن الأدب لا يعطينا نتائج فورية، ولا تظهر آثاره الإيجابية إلا بعد زمن، وبشرط أن تتوافر أجواء مواتية لتعميم قراءة الأدب، وللاهتمام بالثقافة بشكل عام.


ـ لماذا أصبح صوت الشعر الفلسطيني خافتا بعد رحيل الشاعر الفذ محمود درويش؟ وهل ننتظر ولادة "درويش جديد" يوما؟
* ليس ظهور الشاعر الفذ في أي مجتمع بالسهولة المتوقّعة. إن ظهوره مرهون بتضافر مجموعة من الشروط التي تتراكم في حياة شعب أو جماعة قومية ما، ثم يأتي الفرد المؤهل لالتقاط الجوهري في أوضاع هذا الشعب أو تلك الجماعة، الذي يحس بهمومها ويعبر عنها على النحو الذي يحمي هويتها من أية أخطار، ويعزّز دفاعها عن حقها في وطنها وفي الحياة الحرة الكريمة. كان هذا هو حال محمود درويش لدى ظهوره في واقع الأقلية الفلسطينية التي بقيت في وطنها تحت الحكم العسكري الصهيوني، منذ تلك البدايات الأولى التي كتب فيها قصيدته: سجّل أنا عربي، ومحمود درويش يواصل تألقه باعتباره الناطق باسم جماعته القومية، المعبر عن هذه الجماعة بأسلوب فني راق، الذي زاوج، بفعل تطوّر أدواته الفنية وعمق اجتهاداته الفكرية، بين الهم الفلسطيني والهم الإنساني للبشرية، بل إن الهم الفلسطيني نفسه أصبح من خلال شعره معبرًا عن كل المظلومين في العالم التواقين إلى الحرية والعدالة والسلام، ما جعله ليس شاعرًا فلسطينيًّا وحسب، بل شاعرًا كونيًّا بامتياز.
ثمة الآن شعر فلسطيني جيد ومتميز، لكن الشاعر الذي يمكنه أن يأخذ مكان محمود درويش قد يحتاج إلى وقت لكي يتبوأ هذا الموقع، وذلك مرهون بمزيد من التطور الفني للشعر الفلسطيني المعاصر، ولتطور الأدوات الفنية والرؤية الفكرية والإنسانية لكل شاعر فلسطيني بمفرده، وسوف يتحقّق ذلك في وقت ليس ببعيد.

ـ في سنة 2010، صدر لك كتاب بعنوان "القدس وحدها هناك".. إلى متى ستبقى القدس "وحدها هناك" في رأيك؟
* هذا الكتاب هو مجموعة قصص قصيرة جدًّا بوسعك أن تقرأها باعتبار كلّ منها قصة قائمة بذاتها، وهي في الوقت نفسه متصلة بما قبلها وبما بعدها من قصص، ما يتيح قراءتها باعتبارها رواية. وقد كتب الناقد والروائي اللبناني إلياس خوري عنها على أساس أنّها رواية، وقد سرّني ما ذهب إليه من تحليل نقدي واستنتاجات حول هذا الكتاب.
وما قصدته من العنوان، ومن مضمون الكتاب هو أن القدس هزمت كلّ الغزاة وبقيت وحدها هناك، وهذا لا يلغي تأويل العنوان على النحو الذي تعيشه القدس الآن من دون إسناد حقيقي من المنتمين إليها في شتى البلدان. ومع ذلك فهي باقية رغم كل ما يتهدّدها الآن من مخاطر التهويد والأسرلة.

ـ في رواية "فرس العائلة" حاولت تسليط الضوء على واقع بدو فلسطين وأساطيرهم، وحققت الرواية صدى طيبا جعلك أسيرا لها.. هل تخلصت أخيرا من "الأسر"؟ وما مشروعك الروائي القادم؟
* ما زلت غير قادر على التخلّص من أسر هذه الرواية، لسبب بسيط وهو أنها ما زالت تثير ردود أفعال متصلة لجهة الإعجاب بها والكتابة عنها. وأنا ما زلت أتابع كل ما كتب ويكتب عن الرواية، وبعد ذلك، بعد استيعاب الملاحظات والآراء حولها، سأتفرّغ لكتابة الجزء الثاني منها، علمًا بأن الجزء الأول الذي نشر قبل ستة أشهر عن دار نوفل في بيروت، يقرأ باعتباره رواية مكتملة.
في الرواية تركيز على البطولة الجماعية لشريحة من أبناء الشعب الفلسطيني، أقامت في البرية التي تقع على مسافة غير قليلة من القدس، ثم انتقلت للإقامة في أرض لها على مشارف القدس. كنت معنيًّا بالتركيز على تقصّي حياة الناس ردًّا على وجهات النظر الصهيونية وبعض وجهات النظر الاستشراقية المغرضة التي روّجت لكذبة مفادها أن فلسطين هي أرض بلا شعب. وكنت معنيًّا برصد التفاصيل الخاصة بهؤلاء الناس، عاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم وخرافاتهم وما تشتمل عليه من فانتازيا، وكذلك أساليب تحصيلهم لأرزاقهم، وحبهم للنساء الذي يعادل حبهم لأرضهم، حيث الخصوبة التي توحّد بين الأرض والنساء.
مشروعي الروائي القادم هو الجزء الثاني من فرس العائلة. وسوف أبدأ الاشتغال عليه قريبًا.


ـ تنقلت بين العديد من بلدان العالم. أين كانت تجربتك الحياتية الأجمل؟ وهل هناك دولة أو مدينة تمنيت أن تعيش فيها؟
* أحببت مدينة براغ، وقد عشت فيها ثلاث سنوات. وتمنيت أن أعيش فيها مدّة أطول، لأنها مدينة جميلة ذات عراقة وتراث، وفيها مشهد عمراني متنوع. فيها كنائس وأبنية أثرية مشيّدة وفقًا لأنماط عمرانية مختلفة. وفيها وفرة من التماثيل والمعارض الفنية والمتاحف والمسارح والمكتبات وعروض الموسيقى والسينما وغير ذلك.
غادرتها مضطرًّا حينما وقعت ثورة المخمل العام 1989، وهي استكمال لربيع براغ الذي وقع في العام 1968، ثم سحقته دبابات حلف وارسو بأمر من القيادة السوفياتية. صحيح أن عناصر صهيونية تسلّلت إلى هذا الربيع، إلا أن ذلك ليس مبرّرًا لقمع رغبة الشعب هناك في التعبير الحر عن نفسه وعن تطلعاته.
أحببت بيروت مدينة الثقافة بشتى التجليات، وواحة الديمقراطية في الوطن العربي، ومركز تجمع المثقفين الثوريين العرب المنفيين من بلدانهم. عشت فيها أقلّ من عام. وصلتها مبعدًا من سجن الأعداء إلى خارج فلسطين. بيروت كانت آنذاك على وشك الدخول في الحرب الأهلية. غادرتها مضطرًّا إلى عمان، وكنت راغبًا في البقاء فيها لولا نيران الحرب التي اندلعت على غير ميعاد.
وأحببت عمّان بعد أن أقمت فيها أربعة عشر عامًا، وفيها مارست أنشطة ثقافية وسياسية ونقابية متنوعة، وكتبت قصصًا ومقالات ومسلسلات للتلفاز. كانت عمان على مقربة من القدس. أحببتها وأحببت ناسها.
لكنني الآن، بعد عشرين عامًا من العودة إلى القدس، لا أحب العيش في أية مدينة سوى القدس.

ـ هل تقرأ للأدباء الجزائريين، ومن منهم شد انتباهك؟
* قرأت لكاتب ياسين، وأعجبت كثيرًا بروايته "نجمة" وبالشاعرية التي تسم السرد في هذه الرواية الجميلة. وقرأت للطاهر وطار، أعجبت بكثير مما قرأته له. أحببت روايته "عرس بغل" التي ترصد فداحة الواقع الاجتماعي الجزائري في فترة ما، وصراع المسحوقين ضد بعضهم بعضًا، كما لو أنهم لا يكتفون بما يبتليهم به الواقع من آلام، ليضيفوا إليها آلامًا يخلقونها هم أنفسهم لأنفسهم. وقرأت لواسيني الأعرج، أحببت لغته المتقنة وسرده الروائي الذي تخالطه لغة الشعر بقدر محسوب، لا يطغى على انسياب السرد ولا يثقل عليه. مؤخرًا قرأت رواية "دمية النار" لبشير مفتي، وقد أعجبني سرده الممتع واستبطانه لبعض مظاهر التسلط البيروقراطي لدى بعض الشرائح المتنفّذة في المجتمع الجزائري. قرأت كذلك لأحلام مستغانمي. وقرأت لزينب الأعوج وربيعة الجلطي وآسيا علي موسى، ولعدد من الكاتبات والكتاب الشباب الذين ينشرون قصصهم وقصائدهم في بعض المواقع الإلكترونية.

ـ يرى كثيرون في الروائية أحلام مستغانمي ظاهرة أدبية حقيقية.. أين مكان هذه الأديبة بين قامات الأدب العربي في تقديرك؟ وهل تستحق في نظرك الهالة الإعلامية التي تحيط بها؟
* أعرف أن للروائية أحلام مستغانمي حظوة لدى النخب العربية المثقفة، ولدى جمهور عريض من القراء، وأعرف أن احتفاء الإعلام بكاتبة أو بكاتب يسهم في نسج هالة حولها أو حوله، وقد تكون هذه الهالة مبالغًا فيها لغايات تخصّ الإعلام نفسه، وأعتقد أن لدى أحلام مستغانمي ما يجعل الإعلام معنيًّا بها وبتجربتها في الكتابة. قرأت ثلاثيتها الروائية، ولا شك أن فيها سردًا ينطوي على وفرة من الدلالات، لكنني لم أتحمس للجرعة الزائدة من اللغة الشعرية في الثلاثية وكذلك، وإن بنسبة أقل، في روايتها الأخيرة "الأسود يليق بك".
أعتقد أن ما يلفت انتباه القراء العاديين إلى هذه الروايات التزام الكاتبة بعرض بعض مشكلات المجتمع الجزائري الحديث، والتطرّق إلى الثورة ومآلاتها المختلفة، ومن ضمنها تحوّلات بعض الأشخاص الذين انخرطوا فيها، والتطرّق كذلك إلى الإرهاب الأصولي الذي عكّر صفو الحياة اليومية في الجزائز أواخر القرن الماضي، وعدم الاكتفاء بذلك، وإنما إفراد مساحة كافية لاستبطان الهموم الذاتية لشخوصها، وبالذات النسائية منها، واللعب بقدر محسوب، على وتر الإيحاءات الجنسية، ليس فقط في متن الروايات، بل في عناوينها أيضًا.

ـ بين الجزائر وفلسطين علاقة تتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا.. كيف تقيّم الموقف الجزائري من القضية الفلسطينية؟ وماذا عن الموقف العربي عموما؟
* يكفي أن الثورة الجزائرية حينما اندلعت ضد الاستعمار الفرنسي، ومن أجل تحرير الجزائر، كانت ملهمة للفلسطينيين كي يشكلوا تنظيماتهم السرية للبدء في الثورة، ولرفض محاولات تذويب الشعب الفلسطيني وطمس شخصيته الوطنية، ولإعادة هذا الشعب إلى مسرح التاريخ، وهذا ما كان بعد قيام الثورة، رغم أنها لم تنجز تحرير الأرض حتى الآن لأسباب شتى لا مجال للاستفاضة فيها في هذا الحوار.
ويكفي أن أرى مبدعًا جزائريًّا هو واسيني الأعرج الذي كتب رواية من مئات الصفحات هي "سوناتا لأشباح القدس" عن القدس من دون أن يزورها أو يقيم فيها ولو لبضعة أيام. ولم يقم أحد من المبدعين العرب، في ما أعلم، بمثل هذا الصنيع إلا الروائي العراقي علي بدر، الذي كتب روايته "مصابيح أورشليم" من دون أن يزور القدس أو يراها. وهذا في حدّ ذاته تعبير عن الانتماء إلى القدس، والتزام بالدفاع عنها في محنتها الراهنة. وهذا هو الموقف الثابت للشعوب العربية قاطبة، وهو موقف جدير بالاحترام.

ـ ماذا تقول في نهاية هذه الجلسة الحوارية لقرائك بوجه عام ومتابعيك في الجزائر بوجه خاص؟
* محبتي وتقديري لقرائي بوجه عام، ولقرائي في الجزائر بوجه خاص. ويسرّني أن بعض كتبي مقروء في الجزائر، وبالذات المختارات القصصية الموسومة بـ"مقعد رونالدو" التي أصدرتها دار ميم للنشر بإشراف الكاتبة الصديقة آسيا علي موسى. تحياتي ومودّتي للجميع.


موقع الكاتب محمود شقير:

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

أخبار الجزائر والعالم

2020