-->
أخبار الجزائر والعالم أخبار الجزائر والعالم

ماذا يقول الفقه عن الجائحة المستجدة؟

مسائل فقهية تتعلق بالجائحة المستجدة "كورونا"



مساهمة: الشيخ الدكتور التواتي ابن التواتي الأغواطي



بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.

طُلب مني الحديث عن وباء كورونا المستجد الذي غدا يطلق عليه جائحة لانتشاره في العالم وعلى هذا فما ينبغي للمجمعات البشرية من عدة لمكافحة لهذا الوباء الذي حلّ بها؟.

نحن نعلم أن أيّ حاكم في الدنيا سواء كان يحكم بما أنزل الله أو بالقوانين الوضعية إلاّ وهو ملزم برعاية الصحية للمجتمع وذلك بتوفير المستشفيات، الطواقم الطبية، وكل ما يدفع الضرر على الرعية، وهو ما يطلق عليه عندنا معشر المسلمين بمقاصد الشريعة: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ويلحق بها العرض، ويلحق بها المصالح الحاجية وهي التي لا بد منها لقضاء الحاجات كتشريع أحكام البيع والنكاح وسائر ضروب المعاملات.

ودفع ضرر الجائحة يدخل في باب المقاصد ولذلك فإن المسئول الأول في بلادنا قال: بأنه يهون عليه أمر الاقتصاد ولا يهون ضياع روح واحدة، وهي مقولة تنم عن تبصر ومسئولية.

ولتناول هذه المسألة لا بد من وضع خطة: تعريف لفظ الوباء وحالاته، وكذا العدوة التي نفيت في الحديث اختلف فيها الشراح إلى مقالات وبيان مفهومها الصحيح، وإثبات النصوص الدالة على خطورة الجائحة.



تعريف الوباء:

الوباء كُلّ مَرَض شَدِيد الْعَدْوَى وله حالتان ظاهرتان بينهما فروق كبيرة:

-الحالة الأولى أما حال الوباء فمما لاشك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل المكروب أشد التحرز.

-أما الحالة الثانية فإذا عدم الوباء وكانت الحياة تجري على سننها فلا معنى لهذا التحرز، والمشاهدة تنفي ما غلا فيه من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب، ومن كابر في هذا فإنما يجادل بالقول لا بالعمل، ويطيع داعي الترف والتأنّق وما أظنه يطبّق ما يدعو إليه تطبيقًا دقيقًا، وكثير منهم يقولون ما لا يفعلون.ـ? وهنا يجدر بنا ذكر نصوص ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهمها بعض فهما سيئا.

وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافًا كثيرًا والثابت أن الأخبار الدالة على الاجتناب أكثر فالمصير إليها أولى، وقد يأتي بيان ذلك لاحقا –إن شاء الله تعالى-.



النص الأول:

روى أبو داود رحمه الله تعالى في سننه قال: حدثنا مخلد بن خالد وعباس العنبري قالا: حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن يحيى بن عبد الله بن بحير قال: أخبرني من سمع فروة بن مسيك قال: قلت: يا رسول الله أرض عندنا يقال لها أرض أبين هي أرض ريفنا وميرتنا وإنها وبئة -أو قال وباؤها شديد- فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«دعها عنك فإن من القرف التلف»

والوباء مشار إليه في الحديث الآنف الذكر الوباء العام، والطواعن النازلة، وهذا إنما هو من حال البلاد الوحمة بحرارة هوائها، وقد يألفها الساكنون بها، ويختلف فيها حال النازل والوارد عليها، فتعتريهم امراض لاختلاف الهواء عليهم، وقد نصب ذلك أهلها، وقد يستقلون منه كسائر الأمراض باختلاف.

أما وباء الطاعون إنما هو موت ذريع، ولذلك جاء النهي عن دخول الأرض التي ظهر فيها الوباء القاتل أو الخروج منها محافظة على أرواح الناس.



النص الثاني:

روى البخاري ومسلم-رحمهما الله تعالى ـ واللفظ للبخاري ـ عن ابن عباس-رضي الله عنهما: « أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام، حتى إذا كان بِسَرْغ لقيه أُمراءُ الأجناد: أبو عُبيدة وأصحابه، فأخبروه أنَّ الوباءَ قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر: ادْعُ لي المهاجرين الأوَّلين، فدعاهم، فاستشارهم، وأخبرهم أنَّ الوباءَ قد وقع في الشام، فاختلفوا، فقال بعضُهم: قد خرجنا لأمرٍ، ولا نرى أن ترجع عنه، وقال بعضُهم: معك بقيَّة الناس وأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تُقدِمَهم على هذا الوباء، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْع لي الأنصار، فدعوتُهم فاستشارهم، فسلكوا سبيلَ المهاجرين، واختلفوا كاختلافِهم، فقال: ارتفِعوا عنِّي، ثمَّ قال: ادْعُ لي مَن كان ههنا من مشيخة قريش من مُهاجِرة الفتح، فدعوتُهم فلَم يَختلف منهم عليه رجلان، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تُقدِمهم على هذا الوباء، فنادى عمر في الناس: إنِّي مُصبحٌ على ظهر، فأصْبِحوا عليه... » الحديث، وفي آخره: « فجاء عبد الرحمن بن عوف ـ وكان متغيِّباً في بعض حاجته ـ فقال: إنَّ عندي في هذا علماً، سَمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:« إذا سَمعتُم به بأرضٍ فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه، فحمد الله عمرُ ثمَّ انصرف ». ومن واضحٌ في أنَّ عمرَ رضي الله عنه استشار الصحابةَ رضوان الله عليهم، ومنهم كبار الذين أسلموا عام الفتح، واستقرَّ رأيُه على الرجوع وعدم الدخول على الطاعون، ثمَّ إنَّ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أخبر بِما عنده من الحديث في ذلك، فسُرَّ بذلك عمر وحَمِد الله ثمَّ انصرف.

ومن هذا الباب نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القدوم على البلاد التي بها الطاعون وعن الخروج منها فرارا منه فإن في القدوم عليه تعرضا للبلاء، وإلقاء بالأيدي إلى التهلكة وتسببا للأمور التي أجرى الله تعالى العادة بمضرتها.

وفي الفرار منه تسخط لقضاء الله عز وجل وارتياب في قدره وسوء ظن بالله عز وجل، فأين المهرب من الله وإلى أين المفر، لا ملجأ من الله إلا إليه كما روى مالك في موطئه عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشام، قال ابن عباس: فقال عمر بن الخطاب: ادع إلي المهاجرين الأولين، فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشام فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوبأ. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوهم فاستشارهم. فسلكوا سبيل المهاجرين. واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني، ثم قال: ادعوا لي من كان هاهنا من مشيخة قريش. من مهاجرة الفتح. فدعوهم فلم يختلف عليه منهم رجلان. فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدمهم على هذا الوبأ.



النص الثالث:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر»4. أخرجاه. زاد مسلم عن جابر: «ولا نوء ولا غول».وهذا الحديث رواه جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، وجابر بن عبد الله، والسائب بن يزيد وابن عمر وغيرهم، فنسيان أبي هريرة له لا يضر. وفي بعض روايات هذا الحديث: «وفر من المجذوم كما تفر من الأسد».

فقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس رضي الله عنه: «لا عدوى» أي: العدوى اسم من الأعداء كالدعوى والبقوى من الادعاء والإبقاء. يقال: أعداه الداء يعديه إعداء، وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء. وذلك أن يكون ببعير جرب مثلاً يتقي مخالطته بإبل أخرى حَذَار أن يتعدى ما به من الجرب إليها، فيصيبها ما أصابه، وأن معناها: انتقال المرض من شخص إلى شخص بحكم مقاربته له، أو ملامسته له، ونحو ذلك. وقيل: "لا عدوى" هو اسم من الإعداء، وهو مجاوزة العلة من صاحبها إلى غيره، والمنفي نفس سراية العلة أو إضافتها إلى العلة. والأول هو الظاهر.

ولذلك كان أهل الجاهلية يعملون أعمالاً فظيعة خوفاً من العدوى، والرسول صلى الله عليه وسلم نفى ذلك، وأمر باتّخاذ الأسباب الواقية مع التوكُّل على الله سبحانه وتعالى.

فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى» يعني: على ما كان تعتقده الجاهلية، وإنما العدوى بأمر الله سبحانه وتعالى ومشيئته، فإذا توكلت على الله، وآمنت بالله، وقوِيَ يقينك بالله، واتخذت الأسباب التي أمر الله بها؛ فحينئذ تكون قد فعلت المشروع، والتوكل ليس معناه أنك تترك الأسباب، بل تأخذ بالأسباب الواقية، ولا تقْدم على البلد الذي فيه الوباء، ولا تخرج منه إذا وقع وأنت فيه، ولا تخالط الممرضين وأنت تقدر على الابتعاد عنهم، إلاَّ إذا دعت الضرورة إلى ذلك، بأن كان المريض ليس له أحدٌ يعالجه، والمصاب ليس له أحد يعالجه ويقوم بشؤونه؛ فتوكل على الله وقُم بمعالجة المريض، وقُم بخدمته وتوكّل على الله سبحانه وتعالى، وأنت مأجور، فالله جل وعلا إذا علم من نيّتك الإيمان والإخلاص كفاك سبحانه وتعالى، أما ما دمت في غنىٌ عن مخالطته فلا حاجة بك إلى مخالطته، فأنت لا تُقدِم عليه من باب أخذ الأسباب.

فإذا تبين لك هذا الجمع بين نفي العدوى وبين الأمر بمجانبة الداء؛ تبين لك الجمع بينها وبين النهي عن إيراد الممرض على المصح فإنه إذا كان صلى الله عليه وسلم قد أمر المصح بمجانبة الداء فلأن ينهى الممرض عن إيراده على المصح من باب أولى، فإن العلل التي قدمنا أنها من سبب النهي عن القدوم على الوباء والأمر بمجانبته موجودة في إيراد الممرض على المصح بزيادة كونها ليست باختيار المصح كقدومه هو بل مع كراهته لها وانقباضه من ذلك الممرض وربما أدى ذلك إلى بغضه إياه وغير ذلك. والمقصود أن نفي العدوى مطلق على عمومه، وفيه إفراد الله سبحانه وتعالى بالتصرف في خلقه، وأنه مالك الخير والشر وبيده النفع والضر، لا مانع لما أعطى، ولا معطى لما منع، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا مغالب له في شيء من خلقه وأمره، وفي ذلك تقوية لقلوب المؤمنين وإمداد لهم بقوة التوكل وصحة اليقين، وحجة لهم على المشركين وسائر المعاندين، وليس في الأمر بمجانبة البلاء ولا في النهي عن إيراده على المعافى منه منافاة ولا مناقضة. بل ذلك مع الثقة بالله والتوكل عليه من فعل الأسباب النافعة وتوقي الأسباب المؤذية ودفع القدر بالقدر والإلتجاء من الله إليه، وليس في فعل الأسباب ما ينافي التوكل مع اعتماد القلب على خالق السبب، وليس التوكل بترك الأسباب، بل التوكل من الأسباب، وهو أعظمها وأنفعها وأنجحها وأرجحها، كما أن من اضطربت نفسه ووجل قلبه فرقا وخوفا وارتيابا وعدم يقين بالقدر، لا يكون متوكلا على الله بمداناته المرضى والمبتلين وتركه فعل الأسباب، فكما لا يكون المرتاب متوكلا بمجرد تركه الأسباب، كذلك لا يكون الموحد تاركا التوكل أو ناقصه بمجرد فعل الأسباب النافعة وتوقي المضرة وحرصه على ما ينفعه، فإنما الشأن فيما وقر في القلوب وسكنت إليه النفوس، والتوفيق بيد الله، والمعصوم من عصمه الله تعالى.



السؤال الثاني:

ما حكم التداوي قبل وقوع الداء: للعلماء الراسخين في العلم نذكر منهم:

قال أبو العباس الشاطبي ـ في كلامه عن المؤلمات والمؤذيات ـ: «وفهم من مجموع الشريعة الإذن في دفعها على الإطلاق، رفعاً للمشقة اللاحقة، وحفظاً على الحظوظ التي أذن لهم فيها، بل أذن في التحرز منها عند توقعها وإن لم تقع، تكملة لمقصود العبد وتوسعة عليه، وحفظاً على تكميل الخلوص في التوجه إليه والقيام بشكر النعم؛ فمن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد، وفي التداوي عند وقوع الأمراض، وفي التوقي من كل مؤذ، آدمياً كان أو غيره، والتحرز من المتوقعات حتى يقدم العدة لها، وهكذا سائر ما يقوم به عيشه في هذه الدار من درء المفاسد وجلب المصالح».

وسئل العالم الجليل عبد العزيز بن باز-رحمه الله تعالى- عن حكم التداوي قبل وقوع الداء كالتطعيم، فأجاب: «لا بأس بالتداوي إذا خشي وقوع الداء لوجود وباء أو أسباب أخرى يخشى من وقوع الداء بسببها، فلا بأس بتعاطي الدواء لدفع البلاء الذي يخشى منه.



السؤال الثالث:

سأل سائل عن الحكم الشرعي في التداوي بعد وقوع الداء؟ الجواب: هذا بديهة من البديهيات أن الإنسان مطالب شرعا المحافظة على نفسه، ويطلب لها الغذاء إن جاعت، واللباس إن عريت، والدواء إن مرضت وهنا نذكر بأن الدواء من الناحتين: المادية إذ ورد في مسند أحمد بن حنبل عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنزل الله عز وجل من داء إلا أنزل معه شفاء»،

وفي رواية أخرى للإمام أحمد عن هلال بن يساف عن ذكوان عن رجل من الأنصار قال: عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا به جرح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا له طبيب بنى فلان» قال: «فدعوه فجاء فقال: يا رسول الله ويغنى الدواء شيئا فقال: «سبحان الله وهل أنزل الله من داء في الأرض إلا جعل له شفاء». وجاء في حديث جابر عند مسلم: »لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله«، وحديث أبي هريرة المتفق عليه: «ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء».

فقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها...ثم قال: وفي الأحاديث الصحيحة الأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل، كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل، فإن تركها عجزاً ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه، ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولابد مع هذا الاعتماد مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزاً....

وقد أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي قراراً بشأن العلاج الطبي جاء فيه: «الأصل في حكم التداوي أنه مشروع، لما ورد في شأنه في القرآن الكريم والسنة القولية والعملية، ولما فيه من حفظ النفس الذي هو أحد المقاصد الكلية من التشريع، وتختلف أحكام التداوي باختلاف الأحوال والأشخاص وعلى هذا تعتري أمر التداوي الأحكام الشرعية الوجوب والندب والإباحة والكرهية:

- فيكون واجباً على الشخص إذا كان تركه يفضي إلى تلف نفسه أو أحد أعضائه أو عجزه أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره، كالأمراض المعدية.

- ويكون مندوباً إذا كان تركه يؤدي إلى ضعف البدن ولا يترتب عليه ما سبق في الحالة الأولى.

- ويكون مباحاً إذا لم يندرج تحت الحالتين السابقتين.

- ويكون مكروهاً إذا كان بفعل يخاف منه حدوث مضاعفات أشد من العلة المراد إزالتها».

قال العز بن عبد السلام:" الطب كالشرع، وضع لجلب مصالح السلامة والعافية ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام ". انتهى قوله. وقد علم من الشرع بالضرورة مشروعية التداوي، وأن حكمه في الأصل الجواز، توفيراً لمقاصد الشرع في حفظ النوع الإنساني، المعروف في ضرورياته باسم " حفظ النفس ".

ومن الأدواء التي يلجأ إليه التداوي بالدعاء قال الشيخ أبو ستة في حاشية الترتيب قال ابن حجر: وقد استشكل بعض الناس الدعاء برفع الوباء؛ لأنه يتضمن الدعاء برفع الموت والموت حتم مقضي فيكون ذلك عبثا، وأجيب: بأن ذلك لا ينافي التعبد بالدعاء؛ لأنه قد يكون من جملة الأسباب في طول العمر ورفع المرض، وقد تواترت الأحاديث بالاستعاذة من الجنون والجذام وسيء الأسقام ومنكرات الأخلاق والأهواء والأدواء فمن ينكر التداوي بالدعاء يلزمه أن ينكر التداوي بالعقاقير ولم يقل بذلك إلا شذوذا، والأحاديث الصحيحة ترد عليهم.

وفي الالتجاء إلى الدعاء مزيد فائدة ليست في التداوي بغيره لما فيه من الخضوع والتذلل للرب سبحانه بل منع الدعاء من جنس ترك الأعمال الصالحة اتكالا على ما قدر فيلزم ترك العمل جملة، ورد البلاء بالدعاء كرد السهم بالترس، وليس من شروط الإيمان بالقدر أن لا يتترس من رد السهم.-والله تعالى أعلم-.



تنبيه هام:

إن ما قررته السلطة الطبية الراعية التطور الصحي في بلادنا، وكذا لجنة الفتوى الوزارية من وجوب الأخذ بالنصائح فإن كل مخالف لها يعتبر جاهلا لمعنى الإنسانية ومضرا لنفسه ولغيره وهنا وجب على الحاكم أن يعزر ه لما في تصرفه من ضرر على الناس، ويعتبر مخالفا لما ورد من نصوص صحيحة في الشأن.



السؤال الرابع:

هل يضمن الخطأ الطبي؟ الجواب يقتضي منا بيان الخطأ الطبي وتحديده، ومتى يكون الطبيب المداوي ضامنا، ومتى لا يكون غير ضامن؟ والمتفق عليه أن الخطأ الطبي هو "الفشل في إتمام عمل مقصود على الوجه المقصود، أو استعمال عمل خاطئ لتحقيق هدف ما".ونختصر الإجابة في نقطتين:



أولا: يجب أن ننوه بما يبذل السلك الطبي من تضحيات جسام، وسهر على راحة المرضى، وتفقد أحوالهم، وإن الطب مهنة شريفة وإن صاحبها مأجور عند الله قال تعالى: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).

ومهنة الطب من مقاصد الشرع وهو حفظ النفس، ويُعتبر هذا القصد مشترَكاً إنسانياً عاماً لا يختلف أحد على أهميته وأهمية هذه المهنة ونبل القائمين عليها، مهما كان جنسهم ودينهم وفلسفتهم للحياة الإنسانية.



ثانيا: قد يحدث أن يخطئ الطبيب المداوي عن غير قصد، وقد بيّن الفقهاء قديما الفرق بين الخطأ الذي يضمن، والخطأ الذي لا يضمن، ويجب التنبيه إلى أن هناك لجنة تسمى لجنة المخالفات الطبية وتختص بنظر المخالفات الناشئة عن تطبيق النظام المذكور فيما لا يدخل في اختصاص اللجنة الطبية الشرعية واختصاص اللجنة الطبية الشرعية النظر في المطالبة بالحق الخاص الناتج عن الخطأ الطبي المهني والنظر في الحق العام عن الأخطاء الطبية التي ينتج عنها وفاة أو تلف عضو أو فقد منفعته أو بعضها.

وقد بينت ذلك في كتابي 'الإمام أبو عبد الله المازري ومنهجه الفقهي"أن الطبيب لا يكون ضامنا إذ كان الخطأ غير مقصود، وأن الطبيب من ذوي الاختصاص في المهنة، وبذل قصارى جهده، فكان أخطأ في التقدير فحسب، أما إذا كان الطبيب من غير ذوي الاختصاص تتعدى حدود اختصاصه فيِدي إلى هلاك المريض فإن الطبيب هنا يكون ضامنا، وتلزمه الدية والكفارة، ويعاقبه الحاكم على تعديه على نفس بشرية، والأصل في هذا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«من تطبب ولا يعلم منه طب فهو ضامن» رواه أبو داود في سننه، قال الألباني: حديث حسن، فهذا أصل ودليل واضح على ضرورة صدور الطبيب عن علم. (ملخص ما ورد في الكتاب المذكور أعلاه).

وإذا كان احترام الطبيب المداوي واجبا أخلاقيا، وأن يعترف له بما قدم من أعمال جليلة، مما يجعله محل احترام وتقدير بين الناس لما يقوم به، فإنه يجب على المسئولين معاقبة كل من يتصرف منهم تصرفا غير أخلاقي أثناء أداء مهنته، لكون مهنة الطب عملا إنسانيا وشريفا تبعد عن صاحبه الترفع والتكبر والخشونة أثناء أداء مهنته، ولهذا أدعو بسن قوانين كذلك تعاقب كل من يزاول لهذه المهنة الشريفة حين يقوم بتصرف غير لائق غير مشرف لمهنة الطب.

والطبيب المداوي يقابل مريضه مقابلة الطبيب الحاذق المشفق لا مقابلة متعالي المتعجرف، وإن الطبيب الحاذق يبدل على الأدوية والأغذية بملاحظة حالات المريض وغيرها على حسب المصلحة التي يراها، وذلك أن هَمّ هذا النوع من الأطباء هو شفاء المريض ومعافاته، لا الربح المادي من ورائه.

وكتب سلمان الفارسي رضي الله عنه من المدائن إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وكان قد آخى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بينهما فيمن آخى: يا أخي بلغني أنك أقعدت طبيباً تداوي المرضى فانظر فإن كنت طبيباً فتكلم فإن كلامك شفاء وإن كنت متطبباً فاللّه اللّه لا تقتل مسلماً.

ومن أقوال أبي بكر الرازي الطبيب المشهور في بيان العلاقة بين الطبيب والمريض: إذا كان الطبيب عالما والمريض مطيعا فما أقل لبث العلة ومن أقواله أيضا: عالج في أول العلة بما لا يسقط به القوة.

حدثني أحد الأطباء الحاذقين وقد وردت عليه عجوز في غاية التعب، فراح يواسيها ويشفق عليها، ويخاطب نفسيتها حتى زال عنها التعب وأحست بالراحة، فلما أراد أن يكتب لها وصفة الدواء قالت له يا بني إن حديثك هذا كان لي شفاء فلا حاجة لي بالدواء، فكتب لها الوصفة ووضع في طياتها نقودا.

وحدثني آخر أن رجلا أخذ زوجته إلى العيادة للفحص فقال له الطبيب المداوي: إن هذه المرأة في حاجة إلى عملية مستعجلة، لكن الثمن مرتفع وقدره له بـ(25 مليون) في ذلك الوقت فقال الزوج: لا أقدر ولا أكذبك فلا أستطيع دفع المبلغ لا اليوم ولا غدا، فقال له الطبيب: ما تفعل إذن؟ قال الزوج: أعود إلى بلدتي وأكل أمري إلى الله، فقال له الطبيب: هذه العيادة لمجموعة من الأطباء، وأنا أداوي زوجتك على حسابي، وهذه المرأة ما زالت على قيد الحياة تدعو لهذا الطبيب.

فهذا هو النموذج الصالح من الأطباء الإنسانيين الحاذقين الذي يستحقون أن يطلق عليهم لفظ طبيب حاذق إنساني، أما من همه جمع المال وليس في قلبه إنسانية فهذا الصنف لا يستحق أن يطلق لفظ طيب وإنما تاجر فحسب، ولولا خوف الإطالة لذكرت نماذج من الأطباء الماديين لكن نسال الله تعالى أن يهديهم للخير..



السؤال الخامس:

شاع في الأوسط في زمن الجائحة لفظ "بروفسور" بدلا من لفظ "أستاذ" هل هذا لفظ الأخير قاصر عما يِؤديه لفظ "بروفسور" أو هو مركب نقص لدى بعض الناس؟

الجواب: إن كلا اللفظين يؤدي نفس المعنى في لغته الأم إلاّ أن بعضهم مهلوس بلغة فولتير مع أن هذا اللفظ يطلق على الأستاذ المنظر في العلوم الطبية مثل أبي بكر الرازي (251 - 313 هـ = 865 - 925 م) يسميه كتاب اللاتينية (رازيس) – صلى الله عليه وسلم hazes- وكان إمام وقته في علم الطب والمشار إليه في ذلك العصر، وكان متقناً لهذه الصناعة حاذقاً فيها عارفاً بأوضاعها وقوانينها، تشد إليه الرحال في أخذها عنه، وصنف فيها الكتب النافعة، فمن ذلك كتاب " الحاوي " ومن كتبه (الحاوي) في صناعة الطب، وهو أجل كتبه، ترجم إلى اللاتينية وطبع فيها.

قلت: هو الطبيب المشهور الذي وضع له تمثالا في كلية الطب بجامعة مونبولية بفرنسا، وكان يطلق عليه لفظ "أستاذ"، وما حط من قيمته ولا أزرى به، ومن كلامه: مهما قدرت أن تعالج بالأغذية فلا تعالج بالأدوية، مهما قدرت أن تعالج بدواء مفرد فلا تعالج بدواء مركب.

وكذلك الأمر بالنسبة لابن سينا ما انتقص لفظ "أستاذ"حين أطلق، وهو العالم الطبيب المنظر الذي كان يطلق عليه "الأستاذ الرئيس، وما أطلق عليه يوما ما لفظ "بروفسور"، وليست أدري اليوم أن الأستاذ الطبيب يكون ناقصا في علمه حتى يطلق عليه لفظ "بروفسور" فيكمله...!، ولولا خوف الإطالة لذكرت أسماء كثر سجل لهم مواقف فما لقبوا بلفظ"بروفسور" وإنما أطلق عليهم لفظ "أستاذ".

على كل إنها تبعية للأجنبي وإننا نحتاج إلى ما قاله أحد الوزراء (مشكور على ما قال) إلى استقلالية علمية للتعبير على شخصيتنا وإظهارها، ولهذا ألح وأكرر أننا نحتاج مجامع ترصد الأخطاء وتصححها والقصد هنا مجمع فقهي ولغوي.

ولا يفوتني أن أذكر هنا باختصار شديد أن أبا بكر الرازي ندبر أحد الأمراء بالبحث في مسألة من المسائل فقال له الرازي: إن ذلك مما يتمون له المؤن، ويحاج إلى آلات وعقاقير صحيحة، وإلى إحكام صنعة ذلك كله، وكل ذلك كلفة، فقال له الأمير: كل ما احتجت إليه من الآلات، ومما يليق بالصناعة أحضره لك كاملاً حتى تخرج عما ضمنته كتابك إلى العمل.

والفائدة من ذكر هذه الواقعة لو أننا جمعنا هؤلاء "البروفسورات" أي: الأساتذة ووفرنا لهم ما يلزم من وسائل البحث وطلبنا منهم بذل قصارى الجهد في البحث عن مصل ينفع البشرية وخاصة أن الطينة الجزائرية تنجب العباقرة كما قال الشيخ عبد الحميد بن باديس-رحمه الله تعالى-.

انظر كتابنا "الدروس الوعظية من خلال الأحاديث النبوية" الجزء الخامس، ومقالاتنا المنشورة في الصحف، وكذا "التسحيلات الصوتية" المنشورة على شبكة التواصل الاجتماعي، ففيها تحليل لما ينبغي الأخذ به والله ولي التوفيق.

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

أخبار الجزائر والعالم

2020