-->
أخبار الجزائر والعالم أخبار الجزائر والعالم

الشيخ خليفة يكتب عن: ترتيب المقاصد في غلق أو فتح المساجد..

متى تفتح المساجد في الجزائر

 هل حفظ الدين مقدم على حفظ النفس؟.. رؤية فقهية

ألم تر إلى الذين عارضوا فتوى إغلاق المساجد بقولهم إن حفظ الدين مقدم على حفظ النفس، وكأنهم ما علموا أن هناك اتجاه أصولي قوي يرى تقديم حفظ النفس على الدين وممن قالوا به من مشاهير الأصوليين: الرازي، والقرافي، والبيضاوي، وابن تيمية، والإسنوى، والزركشي؛ لأن حفظ الدين لا يقوم إلا بحفظ النفس، ثم إن أحكام الشريعة الغراء تقرّر أن العبد لا يكلف إلا ما يستطيع، وأن ما كان داخلا في استطاعة العبد عرفا فهو داخل في إمكانية تكليف الله إياه شرعا.

وعليه يجب استحضار هذا المعنى في كل ما نأتيه ونذره، حتى لا نتكلف أمورا هي خارج استطاعتنا، وبالتالي نقع في محاذير شرعية نحن في غنى عنها.

هذا.. وإن أصل النزاع هنا ليس حول بركة المساجد وعمارتها، ولا حول فوائد الصلاة ووجوبها؛ لأن الكلام هو فقط عن حالة استثنائية وهي حالة وجود وباء معدٍ، وينتشر بمتوالية هندسية؛ بسبب الاجتماع والتواصل بين الناس، واحتواء المرض لا يتم إلا بالعزل الطوعي أو بترك مسافة واسعة بين الأفراد (social distance)، فإن لم تتم الاستجابة للعزل الطوعي فإن انتشار الفيروس سيقود إلى كارثة كما حدث في بعض البلدان، ومن ثم سيتم فرض الحجر وتقييد الحركة بالقوة كما حصل أيضًا في بلدان أخرى.

وإن القائلين بفتحها في بلدي مع أخذ الأحتياطات الواجبة من وضع القناع الواقي وتباعد الصفوف، أو فتحها لعدد معين، مستدلين في كل ذلك أن ما يخافه الناس في المساجد موجود بأشد منه في الأسواق والمتاجروالمستشفيات وغير ذلك!. وكأني بهؤلاء لا يتابعون هذه المشاهد وهذه التجمعات التي لا تبالي بصحتها وسلامتها وصحة أفراد عائلتها وبالتالي صحة أفراد المجتمع ككل..

وكم أحزتني تلك التصرفات غير المسؤولة وأنا أشيّع جنائز والتي تعين علي أن أكون إماما لبعض منها، أن أرى استهتار بعض الشباب وعدم أخذهم بما هو موصى به من قبل أهل الإختصاص، مثل وضع الكمامات، وكم حاولت ومعي بعض الناصحين من الدعوة إلى إلزامهم بالتباعد ولكن لا حياة لمن تنادي.. فإذا كان هؤلاء ـ من نحسبهم ملتزمين ـ حالتهم هكذا في المقابر وفي الفضاء فكيف يكون حالهم داخل المسجد.. ومساجدنا أصلا تضيق بأهلها فكيف سنقوم بالتباعد في الصلاة كما يقترح بعض الأفاضل؟ أو كيف سنختار من يسمح له بالصلاة دون غيره.

وكأني بهؤلاء لا يؤمنون إلا بالمحسوس يريدون أن يرون الفيروس رأى العين ليصدّقوا به، أو أن يحصد أرواح بعض المقربين منهم ليؤمَنوا بخطره، فهم يرونه مؤامرة وخديعة علينا أن لا نصدق بها، فضلاً عن أن نمنع الشعائر لأجلها ..

ألا إن الأمر الذي ينبغي أن يتفطّن له أن الإمام هو أن لا تكون فتواه على حسب ما يطلبه الجمهور، فالنقاش هنا لم يعد يتصل برأي فردي لهذا المفتي أو ذاك، فالمسألة تتصل بمصير الجماعة ككل، وفتوى مفت أو فعلُ فرد متحمس سيؤثر – لا شك – على مصير الكل وسيتحمل وزر ذلك أيضًا عند الله، فلم يعد الحديث عن مبدأ منع الضرر فقط، بل يتجاوزه إلى مبدأ منع الإضرار بالآخرين وهذه من القواعد الفقهية والأخلاقية الكبرى.

فإذا أردنا أن تعود المساجد لنا ونعود إليها فالمسؤولية مشتركة في التصدي لهذه الجائحة الخطيرة فالأمور بعد توفيق الله سبحانه وتعالى تعود إلينا من خلال التزامنا بالتعليمات والنصائح الموصى بها، والتعاون مع الجهات الحكومية، والمؤسسات وعلى رأسها وزارة الشؤون الدينية التي راهنت على وعي المجتمع وعلينا أن نثبت ذلك عملياً وليس فقط بالكلام..

ولست هنا أسعى إلى تبرير قرارات السلطات أو إيجاد سندٍ شرعي لها، ولكن علينا أن ننزل في النقاش إلى استخدام قواعد المناقشة الفقهية، فالمنهج يفرض علينا إما أن نحتكم إلى أقوال الفقهاء أو إلى أدلة الشرع.

فلو احتكمنا إلى أقوال الفقهاء في ترتيب المقاصد فهم يجوزون إغلاق المساجد، ولم نجد من أنكر ذلك تاريخيًّا، أما إذا احتكمنا الأدلة الشرعية فكلا الفريقين؛ المجيزين والمانعين، يستدلون بأدلة عامة؛ لعدم وجود نص خاص في مثل هذه الحالة، فلو سلمنا بتعادل أدلة الفريقين فلا بد من الترجيح بينهما، وفي هذه الحالة تشكل قواعد الضرر مرجحًا كافيًا وشرعيًّا بين الرأيين، فإذا تعارض ضروري حفظ النفس المتمثل في خطر الموت عند الإصابة بالفيروس، مع تحسيني أو تكميلي حفظ الدين المتمثل في صلاة الجماعة، قُدِّم ضروري حفظ النفس على تكميلي حفظ الدين باتفاق أهل العلم والعقل، وهو ما غاب عن المعارضين ولم يظهر جلياً في خطاب المؤيدين وهذا مما لا شك فيه عند من له ذوق في الفقه.

ومن رحمة الإسلام وشموليته وصلاحيته لكل زمان ولكل الحالات أنه جعل الأرض كلها للمسلم مسجدا، ولا يشترط لأداء الصلاة أماكن مخصوصة دون غيرها.. فأخلصوا نيتكم، وأحسنوا عملكم، واستجمعوا همّتكم، وحافظوا على صلاتكم في أول وقتها، وابتعدوا عن القيل والقال.. فهذا في حدّ ذاته بلاء وجد له في زمننا مرتعًا خصبًا وميدانًا فسيحًا في شبكات التّواصل الاجتماعي، وتلبّس به كثير من النّاس حيث يتشاركون وينشرون أخبارًا تَرُوج في هذه الشّبكات، و”فيديوهات” وفتاوى لا تثمر سوى مواد الإحباط والتثبيط.. ولكن رحمة ربك وسعت كل شيء.

وقولوا: يا ربنا حبسنا عن السعي لبيتك فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وهو جند من جنودك وأنت به وبنا أعلم، حتى يكتب الله لكم من الأجر كالغادي للمساجد العامر لها.. ففي البخاري ومسند أحمد وسنن البيهقي وغيرهم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا". قال الحافظ في الفتح في شرح هذا الحديث: (وهو في حق من كان يعمل طاعة فمنع منها وكانت نيته لولا المانع أن يدوم عليها، كما ورد ذلك صريحًا عند أبي داود).

هذا ما قلت.. وكأني بالمداد قد انتهى وبالقلم قد كلّ وملّ، فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان. وشأن المؤمنين الخلص الالتِجاء إلى الله تعالى وقت المصائب والشدائد، وحسنُ الظن به، واليقين التامُّ أنه لا كاشفَ للضرِّ ولا رافعَ للبأسِ إلا هو سبحانه وتعالى. نسأله العفو والعافية في ديننا ودنيانا وبلادنا وأهلينا وأموالنا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم..


* الشيخ أبو إسماعيل خليفة

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

أخبار الجزائر والعالم

2020