-->
أخبار الجزائر والعالم أخبار الجزائر والعالم

قصّة قصيرة: أنا هارون.. يا شارون

 أنا هارون.. يا شارون

 


ـ قصة قصيرة ـ

 

بقلم: شيخ بن خليفة

 

المشهد الأول: عام 2043

بالعاصمة الإدارية "الجديدة" لمصر، على بُعد نحو خمسة وأربعين كيلومترا من القاهرة.. وداخل قاعة جميلة، يبدو أنّ أموالاً طائلة قد أنفقت على تشييدها وتجهيزها.. تجمّع عشرات الصحفيين يُثرثرون في انتظار انطلاق الندوة..

"أحدهم" كان يبدو متوتراً وهو يحمل قلماً كبيراً، رُسِم عليه عَلَمَا الجزائر وفلسطين متعانقين.. وتحت العلمين نُقشت كلمة استثنائية "جزائرسطين"..

اقترب رجل أمن من الصحفي الشاب النحيل الذي كان يجلس في مكان قريب من المنصّة، وسأله متعجباً:

"ماذا يفعل صحفي جزائري يبدو حديث عهد بالمهنة في ندوة صحفية ينشّطها رئيس الوزراء الإسرائيلي؟"

وأضاف بلهجة ساخرة: "ألستم تزعمون أنكم ضد التطبيع؟"

ردّ الصحفي: "ما اسمك سيّدي؟"

ـ "أحمد موسى.. حضرتك".

* "اسم جميل".. علق الصحفي، مُستدركاً: .. "ولو أنّه يطابق اسم شخص لا أحبّه"!

ثم استطرد قائلا:

"اسمع أخي أحمد.. أولاً لستُ جزائرياً.. ولو كنتُ كذلك لافتخرت بالتأكيد.. وثانياً هذا القلم هدية من صديق جزائري عزيز.. وثالثاً حضوري كصحفي لندوة هذا القذر لا يعني أني مُطبّع.. ورابعاً ما شأنك أنتَ؟!"

انزعج رجل الأمن من الصحفي الشاب صاحب النظرات الحادة، وقبل أن ينبس ببنت شفة انطلق صوت جهوري من الميكروفون الرئيسي:

".. سكوت.. سكوت من فضلكم، سيدخل الآن رئيس الوزراء المصري وضيفه الإسرائيلي شارون الابن في أول زيارة له إلى بلادنا.. ونرجو من حضراتكم الالتزام بطرح أسئلة مِهَنية مقبولة ومعقولة، بعيداً عن أي تهوّر أو استفزاز.. لا نريد أي إزعاج لضيفنا.. تعرفون الظروف الحسّاسة التي تمرّ بها المنطقة.. ونثق في مهنيتكم وحسّكم الوطني، فمصلحة وطنِنا وأمتنا أوْلى من أيّ اندفاع عاطفي.."

نظر "أحمد موسى" إلى حامل قلم "جزائرسطين" متوجساً، ثم اقترب منه وهمس في أذنه: "البيه عايْز أسئلة كْيُوتْ حَضْرِتَك.. وإنتَ بالذات يا ريت ما تِسْألش خَالِصْ"!

****

 

المشهد الثاني: سنة 2023

كان الفتى هارون يرتعد بردا ورعبا حين فقد السيطرة على كلّ شيء.. فبلّل سرواله أمام كاميرات هواتف وثّقت موقفا يذيب قلوب الكبار ويشيب لهوله الصغار..

وبعد أيام كانت مريم، أم هارون، تجلس في زاويتها الصغيرة، بمخيّم للاجئين ـ أو بالأحرى الهاربين من الموت ـ قبالة تلفاز عتيق، تتأمّل زواياه المنكسرة حين قرأت سلسلة من الأخبار العاجلة المتلاحقة عبر قناة متعاطفة مع الفلسطينيين..

ـ الكيان الصهيوني يعلن نهاية العدوان الإرهابي على غزّة.

ـ متحدّث باسم الجيش الإسرائيلي: لم نحرّر القطاع من حماس ولكننا وجّهنا لها ضربة مدمّرة.

ـ وزير الصحة المصري يعلن التكفل بالطفل الفلسطيني هارون تنفيذاً لتوجيهات رئيس الجمهورية.

نزل الخبر الأخير برداً وسلاماً على قلب أم هارون، وهو الخبر الأكثر أهمية في ميزان قلبها المكلوم.. فهو يتعلق بفلذة كبدها الذي أبكى الملايين..

ملايين العرب والمسلمين وغيرهم ممن لم يملكوا غير الدموع والدعاء بالنصر المبين على الصهاينة الغاصبين.

الصهاينة الذين كان هارون المسكين محطّ سخرية كثيرين منهم..

وكان من بين الساخرين المتشفّين نجل آريال شارون، السفّاح الذي ارتكب مجازر لا تُنسى بحق أبناء أرض فلسطين، قبل أن ينتهي به المطاف مُلقى على سرير مستشفى في غيبوبة دامت ثماني سنوات..

شارون الابن لم يتردّد لحظة واحدة في مشاركة فيديو الصبي هارون على صفحته الخاصّة، وأرفقها بوجوه تعبيرية ضاحكة!

في الجانب الآخر.. دموعٌ كثيرة سالت على مشهد هارون ـ الفتى الفلسطيني البالغ من العمر ستّ سنين ـ وهو يرتعد رعباً بعد انتشاله من تحت الأنقاض، وانتزاعه من بين يدي خاله الذي استشهد وهو يحاول النجاة بنفسه وبابن أخته من غارة صهيونية على مستشفى الشفاء.. أكبر مستشفيات غزّة.

هناك كان الخال، الذي يشتغل طبيباً، يتفقّد حال هارون الذي نُقل إلى المستشفى بعد أن أغمي عليه حين ألقى جندي صهيوني رأس والده في ساحة المنزل.. أو ما تبقّى منه.

قبل ذلك كان الخال الطبيب الطيّب يجري عملية جراحية عاجلة لأخت هارون التي توقف قلبها وفاضت روحُها لأنّ العملية كانت تُجرى بدون تخدير..!

على وقع الأخبار العاجلة، عاجَلت دموع الأسى عيون أم هارون، وهي تتذكّر زوجها الشهيد الذي قضى نحبه بعد أن وضع لغماً قوياً داخل دبابة ميركافا كانت تقل مجموعة من "الوحوش".. 

وانتقاماً من عائلة الشهيد، حملت مجموعة أخرى من الخنازير رأسه وألقت به على مرأى زوجته وأبنائه..

لاحقا استشهد بقية أفراد العائلة؛ لم ينجُ إلا هارون.. والأم التي وجدت نفسها بعد شهرين أليمَيْن في مخيّم بلبنان الغارقة بدورها في مشاكل لا تنتهي..

****

المشهد الأخير: عام 2043

في شقة بسيطة بغزّة، جلست مريم تشاهد التلفاز وهي تسند ظهرها إلى جدار مهترئ، وخلفها لوحة مزخرفة، كُتب عليها بخط جميل: "وَدِيني دِينُ عِزٍّ.. لستُ أدري أذِلّةُ قومِنا مِنْ أَينَ جاؤُوا؟!"

تناهى إلى سمعها صوت فيروز وهو يصدح في بيت الجيران:

"الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان.."

علّقت مريم: "لا بكاء بعد الآن.. ولا أحزان.. إن شاء الرحمان.."

قالت ذلك وقد راودها شعورٌ مُفاجئ بالفخر والعزّة..

وكيف لا تشعر بالعزّة وقد عادت إلى غزّة العزيزة بعد سنوات من التشرّد واللجوء هنا وهناك.. التقت خلالها ابنها هارون مرّات قليلة.

"هارون.. آه يا هارون كم اشتقتُ إليك يا روح الروح..!"

فجأة تجمّد الدم في أوصالها وهي تتابع ما تراه على شاشة التلفاز..

كانت القناة تنقل وقائع الندوة الصحفية التي ينشطها رئيس وزراء مصر بمعية ضيفه الثقيل دماً ووزناً ـ كوالده سيّئ الذكر ـ رئيس وزراء بني صهيون.

بدا شارون الابن متبجّحا وهو يردّ بتعالٍ حيناً، وازدراء حينا آخر، على أسئلة الصحفيين العرب، إلى أنْ تناول الميكروفون "أحدهم".. ذلك الصحفي الذي بدا متوترا قبل بدء الندوة، قبل أن يتبخرّ التوتر ويحضُر الإقدام.

ألقى صاحب القلم المميّز الميكروفون أرضاً، واحتاج إلى خطوتين فقط ليصبح بينه وبين كبير الصهاينة أقل من نصف متر..

ثم احتاج إلى ثانية أو اثنتين ليكون قد طوّق عنق الصهيوني بيده اليسرى، وبيُمناه قلمه "الجزائرسطيني" الذي تحوّل إلى سلاح دمار شامل يصنع الحدث ويكتب التاريخ كما لم يكتبه من قبل!

ـ "أنا من غزّة يا شارون.. واسمي هارون.. هل تذكر هارون الذي سخرت منه قبل عشرين عاماً؟ وهل تذكر ما فعلتم بغزّة.. ووالدي الذي قطعتم رأسه؟..

أنا من غزّة يا ملعون ولستُ أحمل لك سؤالاً.. بل غضباً ساطعاً سيشفي صدور قوم مؤمنين بإذن الله.."

وانطلقت قبضة هارون تغرس القلم في رقبة شارون بقوة.. وانفجر الدم نهراً منهمراً، في منظر سرّ قلوب الملايين.. وبعد ثوانٍ خرّ كبيرُ بني صهيون صريعاً.. وسرواله "الكبير" مبللا تماما.. بَلَلٌ أعاد للذاكرة ما جرى قبل عشرين عاما..!

"هكذا سيعرف كل صهيوني أنه لن يكون بأمان.. في كل زمان وأيّ مكان.. حتى تعود فلسطين لأهلها.. ويعود الغاصبون من حيث أتوا.."

كانت تلك الكلمات الأخيرة لهارون الذي استغلّ حالة الفوضى التي أحدثها ليختفي بطريقة حيّرت الحاضرين والمشاهدين.. كأنّ الأرض ابتلعته أو كأنّه تبخّر في الفضاء!..

الجزائر، نوفمبر 2023 

الحقوق محفوظة

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

أخبار الجزائر والعالم

2020