تستخدم رغد، التي لا تزال في العاشرة من عمرها، عكازين
للسير بحذر شديد على تل موحل، مرتدية حذاءً مطاطياً لامعاً أزرق اللون في قدمها
اليمنى، أما القدم الأخرى، فقد تم بترها من أسفل الركبة، وهي نموذج عن بؤساء سوريا
الذين يواجهون أسوأ شتاء في حياتهم، فالقتل يطاردهم والتشرد ينتظر الناجين منهم.
أصيبت رغد عندما انفجرت قنبلة دمرت منزل عائلتها في بلدة
حاس، التي تقع على بعد 86 كيلومتراً جنوب غرب حلب، أكبر المدن السورية. وقد أصبحت
أجزاء كثيرة من حلب الآن حطاماً بعد مضي ما يقرب من ستة أشهر على بدء حرب المدن،
وفر معظم سكان حاس البالغ عددهم 25,000 نسمة.
تعيش رغد وعائلتها في خيمة على منحدر يغطيه الطين، وهم
ضمن 4,000 شخص تقطعت بهم السبل في مخيم للنازحين يضم أكثر من 500 خيمة، أنشئ قبل
ثلاثة أشهر بالقرب من الحدود التركية. ويصل المزيد من الأسر كل يوم إلى المخيم ومن
بينهم كثيرون من حاس. كما يعيش 10,000 شخص غيرهم في مكان قريب داخل المخيم الآخر
الوحيد المعروف في شمال البلاد، واسمه مخيم عتمة. ولا يقل عدد النازحين داخلياً في
جميع أنحاء سوريا عن 2.5 مليون شخص، وفقاً لجمعية الهلال الأحمر العربي السوري.
ويشعر العديد من النازحين هنا بالبرد والخوف ويقولون
أنهم يرغبون بشدة في مغادرة سوريا، بعد ما يقرب من عامين من الصراع، وعبور الحدود
إلى تركيا، لكن جارتهم الشمالية ترفض قبولهم في الوقت الحالي، متعللة باكتظاظ
المخيمات.
والجدير بالذكر أن تركيا تضم 14 مخيماً تأوي 141,000
نسمة، وهم بالفعل أكثر من قدراتها الاستيعابية، حيث ينام الآلاف منهم في خيام
جماعية أو في القرى المجاورة، نظراً لعدم وجود مساحات كافية لهم.
ويقول أولئك الذين ينتظرون على الحدود أن سياسة الباب
المفتوح التي اتبعتها تركيا في وقت سابق لم تعد سارية. أما الآن، فيُسمح للجرحى
والأشخاص الذين يحملون جوازات سفر فقط بعبور الحدود إلى تركيا. أما الآخرون فعليهم
الانتظار في سوريا حتى يتم بناء مخيمات جديدة للاجئين.
وتوجد ستة مخيمات قيد الإنشاء حالياً، ومن المقرر اكتمال
ثلاثة منها - بطاقة إجمالية تبلغ 15,000 شخص - بحلول السنة الجديدة، ولكن ذلك يبقى
بالنسبة للأشخاص الذين دُمرت بيوتهم، وقتل أفراد أسرهم، وفروا من قراهم، سباق مع
الزمن والطقس والحرب.
البحث عن الأمان
وتغطي صفوف الخيام البيضاء في مخيم قاح ما كان في السابق
بستاناً لأشجار الزيتون. وتستخدم الأشجار المتبقية لمد حبال الغسيل. ومن هذا
المخيم، يمكن رؤية قرية مجاورة وعدة هكتارات من بساتين الزيتون المنتشرة على
التلال.
ويخفي هذا المشهد واقعاً قاسياً. فقبل أسبوعين فقط، ألقت
القوات الحكومية قنابل على مقربة من المخيم، كما يقول السكان، مما خلق حالة من
الذعر، وهرع الناس باستماتة صوب الحدود التركية. ولم يتم الإبلاغ عن أي حالات
وفاة، ولكن الوضع لا يزال متوتراً.
وقد سقطت 6 صواريخ على قاح وعتمة خلال هذا الهجوم، حسبما
ذكر حسن، الذي يبلغ من العمر 35 عاماً، وهو ضابط شرطة سابق انضم إلى الجيش السوري
الحر ويعيش حالياً مع عائلته في المخيم.
وعلى عكس مخيمات اللاجئين الرسمية، التي تحظر على
الجماعات المسلحة التواجد بداخلها، يسيطر الجيش السوري الحر والجماعات التابعة له
على هذا المخيم. ويطلق الثوار رشقات نارية في قاح احتفالاً بالاستيلاء على مخبأ
جديد للأسلحة. وتمر شاحنة تحمل منصة لاطلاق الصواريخ في وسط المخيم.
ويعد وجود الجيش السوري الحر نعمة ونقمة في نفس الوقت
بالنسبة للمدنيين الذين يبحثون عن مأوى هنا. فالثوار يسيطرون على المنطقة، مما
يجعلها آمنة، ولكن وجودهم يجعل المنطقة هدفاً مشروعاً للهجمات الصاروخية والقصف من
قبل القوات الحكومية.
''من غير المعتاد أن يتم إعادة النظر في هذه الخطط على
هذا النحو المتكرر، وهو ما يدل على حدوث تطورات سريعة في الميدان وتدهور للوضع
الإنساني بشكل كبير في البلاد.... إن حجم هذه الأزمة
الإنسانية أمر لا ''جدال فيه"
منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية
وأوضح حسن أن الجميع تقريباً يريدون الوصول إلى تركيا،
حيث يعتقدون أنهم سيجدون مساكن أفضل، والمزيد من المياه والمواد الغذائية، ولكن
الأهم من ذلك كله هو السلامة. مع ذلك، هناك حركة يومية في الاتجاه الآخر، حيث
يغادر 200 لاجئ سوري في المتوسط المخيمات التركية ويعودون إلى ديارهم يومياً،
وفقاً للحكومة التركية.
"العديد من الأطفال سيلقون حتفهم"
وقال شادي أمين، مدير مخيم قاح، في تصريح لشبكة الأنباء
الإنسانية (إيرين) أن "الطقس الآن بارد بشكل لا يصدق". ومنذ أن بدأ فصل
الشتاء قبل أكثر من شهر، شهدت المنطقة أمطاراً غزيرة استمرت لعدة أيام. وتسربت
المياه إلى الخيام، فبللت البطانيات والفرش والسجاد. وفي الليل، تنخفض درجات
الحرارة إلى ما دون الصفر.
"يمكنك سماع بكاء الأطفال داخل الخيام،" كما
قال مصطفى، وهو رئيس طهاة ورقيب سابق في الجيش يبلغ من العمر 22 عاماً كان قد فر
من حاس مع تسعة من أفراد عائلته. كما ينتشر السعال وسيلان الأنف والطين العميق
يجعل من المستحيل الحفاظ على النظافة.
وقال أمين أن فتاة صغيرة تجمدت حتى الموت في مخيم عتمة
قبل يومين. وحذر من أن "الوضع سيصبح أكثر سوءاً في شهري يناير وفبراير" وأن
"العديد من الأطفال سيلقون حتفهم".
وقالت إمرأة تدعى عزيزة ترتسم علامات الرزانة وقوة
التحمل على وجهها بينما يحيط بها أطفالها الثمانية: "لا نريد سوى الذهاب إلى
تركيا". وكان زوج عزيزة وشقيقها قد قُتلا رمياً بالرصاص، وتركا لها رعاية
الأطفال، ومعظمهم لا يملك ملابس شتوية مناسبة.
وداخل عيادة مؤقتة في قاح يدفئها فرن يحرق الحطب، يفحص
طبيب سوري يعمل مع منظمة أطباء العالم (MDM) المرضى،
وكثير منهم من الأطفال الذين يعانون من أمراض الجهاز التنفسي. وقد أقامت منظمة
أطباء العالم خيمة طبية وقدمت الأطباء والدواء والمياه لسكان المخيم.
وقال الطبيب، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن أكثر من 30
بالمائة من سكان المخيم يعانون من الإسهال بسبب شرب مياه غير نظيفة. وأفاد أيضاً
أن حالات الإصابة بالتهاب الكبد الوبائي (أ) تنتشر بسرعة في المخيم.
وتقوم الشاحنات بنقل المياه من قرية مجاورة. وعند
وصولها، يعدو الأطفال إليها حاملين دلاء المياه. ويبدو أن نشاطهم الرئيسي هو ملؤها
وسحبها مرة أخرى إلى خيامهم. ويقوم بعض الأولاد بجمع الحصى وحمله في مقالي كبيرة،
للمساعدة في حماية الخيام عن طريق بناء حواجز حول كل منها. وعلى الرغم من أن عدداً
قليلاً من الأطفال يدرسون داخل خيمة تم تحويلها إلى مسجد، فإن مئات الأطفال
الآخرين ليسوا مسجلين في أي نوع من أنواع المناهج الدراسية.
كما يفتقر النازحون، ومعظمهم من كبار السن والنساء
والأطفال، إلى الأغراض الأساسية، مثل مواقد الطهي. ولا يوجد سوى عدد قليل من
الرجال هنا، حيث يقاتل معظمهم مع الثوار ويساعد بعضهم في حراسة المخيم.
التبرعات
تجلس عائلة على شكل دائرة على بساط في إحدى الخيام،
وتستخدم المراتب كوسائد . يوجد تلفاز في الزاوية ومصباح كهربائي يتدلى من السلك،
ولكن ليس لديهم كهرباء. يقول أمين، مدير المخيم، أنها ستدخل المخيم قريباً، مثل
المراحيض الجديدة التي ستحل محل المراحيض المؤقتة ذات الرائحة الكريهة التي تقدمها
المنظمة غير الحكومية التركية مؤسسة حقوق الإنسان والحريات والإغاثة الإنسانية (IHH).
وهناك مدرسة قيد الإنشاء بالقوالب الأسمنتية.
وأقيم هذا المخيم بفضل تبرع أولي قيمته 45,000 دولار من
منظمة غير حكومية ليبية تدعى "اليسر". وقد تم استخدام هذا المال لإعداد
الأرض وشراء 60 خيمة. وقدم المجلس الوطني السوري، وهو مظلة الجماعات المعارضة
السابقة، 500 خيمة أخرى، فضلاً عن 3,000 بطانية. كما يقوم الهلال الأحمر التركي
بوضع 3,000 وجبة طعام على الحدود كل يوم، حيث يأتي متطوعون من المخيم لأخذها.
وتتلقى كل أسرة حصة غذائية.
وعندما تصل التبرعات، يتم توزيع البطانيات والملابس على
السكان. لكن على الرغم من البرد، يتجول العديد من الأطفال مرتدين سترات وبنطلونات
رقيقة، وصنادل مطاطية دون جوارب. ويشكو الناس مراراً وتكراراً من أنهم بحاجة إلى
ملابس دافئة. ويقول المسؤولون عن إدارة المخيم أنهم بحاجة إلى المال لتوليد
واستخدام الكهرباء في توفير التدفئة. وتوسلت أم شابة طلباً للحليب لطفلها، بينما
طلبت أم أخرى حفاضات.
وقد تمكنت الأمم المتحدة من توزيع حصص غذائية على 1.5
مليون شخص عن طريق الهلال الأحمر العربي السوري. لكن الهلال الأحمر العربي السوري
لا يستطيع الوصول إلى بعض المناطق شمال إدلب، مثل تلك المخيمات الموجودة على
الحدود، بسبب انعدام الأمن، لذا يستخدم اللجان المحلية لإرسال أكبر كمية ممكنة من
الغذاء. مع ذلك، فإن عدد المحتاجين إلى المساعدة الذي يبلغ حوالي أربعة ملايين
نسمة - من بينهم الأشخاص الذين فروا من ديارهم والمجتمعات المضيفة والفئات شديدة
الضعف - أعلى بكثير من حجم المساعدات المتاحة والمعونات المقدمة من قبل الأمم
المتحدة لا تصل إلى جميع أنحاء البلاد.
وأكدت ستيفاني بانكر، المسؤولة الإعلامية في مكتب الأمم
المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، أن "مستوى الكرم من جانب كل من
الحكومة والأفراد كان ملحوظاً، لكننا نشعر بقلق عميق بشأن فصل الشتاء، الذي حل
بالفعل ويزداد صعوبة".
نداء جديد للأمم المتحدة
وقد أطلقت الأمم المتحدة خطة جديدة، وهي الرابعة من
نوعها، للاستجابة لاحتياجات أربعة ملايين شخص في سوريا خلال الأشهر الستة الأولى
من عام 2013. وطلبت المنظمة 500 مليون دولار لتلبية الاحتياجات داخل سوريا ومليار
دولار لمساعدة اللاجئين الفارين إلى دول الجوار. وقالت الأمم المتحدة أن الندائين
يشكلان معاً أكبر نداء إنساني قصير المدى على الإطلاق.
وقال رضوان نويصر، منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون
الإنسانية، في بيان له أنه "من غير المعتاد أن يتم إعادة النظر في هذه الخطط
على هذا النحو المتكرر، وهو ما يدل على حدوث تطورات سريعة في الميدان وتدهور للوضع
الإنساني بشكل كبير في البلاد" مضيفاً أن "حجم هذه الأزمة الإنسانية أمر
لا جدال فيه".