قصة قتل الفقيه الزاهد التابعي الجليل سعيد بن جبير.. قصة مؤلمة.
ومع آلامها يبرز سؤال مهم حول موقف العلماء والدعاة والمصلحين من الأحداث السياسية الملتهبة.
هل الأولى لهم أن ينخرطوا في هذه الأحداث ويجهروا بكلمة الحق مهما كانت العواقب ولو قدموا رقابهم ثمنا لهذا الموقف؟ أم أن الأولى لهم عدم الوحول في معترك السياسة ليصونوا علمهم ودعوتهم وليستمر عطاؤهم وانتفاع الناس بعلمهم؟
دعونا أولا نرجع سريعا إلى ملابسات الصدام الذي وقع بين سعيد بن جبير وطاغية العراق الحجاج بن يوسف الثقفي. كان سعيد من أئمة التابعين، وقد تلقى علمه عن كوكبة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبوهريرة، وعبد الله بن عمر، وعائشة أم المؤمنين، وأبو سعيد الخدري رَضِي اللَّه تعالى عَنْهم أجمعين.
وقد طالت صحبته لحبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فأخذ عنه القرآن وتفسيره، والحديث وغريبه، ودرس عليه اللغة. وقد رحل كثيرا في طلب العلم، واستقر به المقام بعد ذلك في الكوفة.
حيث توافد إليه المسلمون ينهلون من علمه وفضله، حتى قال عنه الإمام أحمد بن حنبل بعد ذلك “لقد قتل سعيد بن جبير وما على ظهر الأرض أحد من أهل زمانه إلا وهو محتاج إلى علمه”.
وقال خصيف عن جيل التابعين: أعلمهم بالقرآن مجاهد، وأعلمهم بالحج عطاء، وأعلمهم بالحلال والحرام طاووس، وأعلمهم بالطلاق سعيد بن المسيب، وأجمعهم لهذه العلوم سعيد بن جبير. وقال عليّ بن المديني: ليس في أصحاب ابن عباس مثل سعيد بن جبير، قيل ولا طاووس؟
قال: ولا طاووس، ولا أحد. وقال سفيان الثوري: خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك.
كانت العراق وقتها تحت إمرة الحجاج بن يوسف الذي نشر الرعب بين أهلها، وكانت قسوته وظلمه وبطشه وراء إراقة أنهار من الدماء البريئة.
وحدث أن أرسل الحجاج جيشا لفتح بلاد الترك وأمر عليهم عبيد الله بن أبي بكرة، فهزمهم الترك وأوقعوا في جيش المسلمين خسائر فادحة. فلما كانت السنة التالية – سنة ثمانين من الهجرة- أرسل الحجاج جيشا آخر وأمر عليه قائده الشجاع عبدالرحمن بن الأشعث.
ففتح أطرافا كثيرة من بلاد الترك، ثم رأى ابن الأشعث أن يأخذ جيشه هدنة يلتقط فيها أنفاسه ويؤمن فيها المدن والقرى التي سيطر عليها ويعيد إمدادات جيشه بحيث يوغل في باقي بلاد الترك العام التالي، خاصة وأنهم كانوا وقتها على أعتاب الشتاء ببرده القارس في تلك البلاد.
بدا رأي ابن الأشعث منطقيا وحكيما، ولكن لما كتب بذلك إلى الحجاج يستأذنه أن يتوقف عن القتال للعام التالي، كتب إليه الحجاج يستهجن رأيه، ويستخف بعقله، ويسخر من تردده، ويقرعه بالجبن والنكول عن الحرب، ويأمره حتما بدخول بلاد رتبيل.
ثم أرسل إليه ثانية وثالثة، فجمع ابن الأشعث رؤوس العراق وقال لهم، إن الحجاج ألح عليكم في الايغال في بلاد العدو، وهي البلاد التي هلك فيها أخوانكم بالأمس، وقد أقبل عليكم فصل الشتاء والبرد.
ثم قام فيهم خطيبـ ا وأخبرهم برأيه بإصلاح البلاد التي فتحوها، وأن يقيموا بها حتى يتقووا بغلاتها وأموالها ويخرج عنهم فصل البرد ثم يسيرون إلى بلاد العدو، ثم قال لجنده: أتبايعونني على ذلك، وتؤازرونني على جهاد الحجاج، حتى يطهِّر اللهُ أرضَ العراق من رجسه، فنزلوا على رأيه وخلعوا بيعة الحجاج، وبايعوا ابن الأشعث.
وحدث بعد ذلك بقليل أن كثرت شكاوى من دخل الإسلام من أهل الذمة، من معاملة الحجاج لهم وتفريقهم في البلاد وتشريد أسرهم لحنقه من فقدان أموال الجزية التي كانوا يدفعونها قبل إسلامهم. وهذا موقف عجيب لا يفقه أن الفتوحات الإسلامية كلها مقصودها الهداية لا الجباية.
ولذلك لما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة بعد ذلك بسنوات وأرسل له أحد ولاته كتاباً بأن هناك عددًا كبيرًا من أهل الذمة دخلوا في الإسلام، فقَلَّت الجزية وانخفض الدخل، فقال: واللهِ أتمنّى أن أعمل راعيَ غنمٍ أنا وأنت، ويدخلُ الناسُ كلهم في الإسلام.
وقد استغل ابن الأشعث هذه المظالم فكتب إلى علماء البصرة والكوفة وفقهائها يطلب منهم مبايعته للإطاحة بالحجاج، خاصة وأنه في تلك اللحظة كان قد حقق عدة انتصارات متتالية على جيش الحجاج. فاستجاب له مجموعة من علماء العراق منهم سعيد بن جبير، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبي، وغيرهم فبايعوه وخلعوا بيعة الحجاج.
ثم قدر الله تبارك وتعالى، أن ينقلب ميزان الحروب الطاحنة التي وقعت بين الطرفين، وهزم الحجاج جيش ابن الأشعث الذي فر بحياته. وعندما استتب الأمر ثانية للحجاج، نكل بمن خلع بيعته ودعاهم إما للقتل أو أن يعترفوا بكفرهم بتخليهم عن بيعته مقابل عفوه عنهم. ومن الناس من قبل، ومنهم من رفض هذا الشرط القاسي وفضل القتل على أن يدمغ نفسه بالكفر.
وأما سعيد ابن جبير فهرب من العراق واستقر بأسرته الصغيرة في بعض نواحي مكة المكرمة. وظل متخفيا هناك عشر سنوات كاملة إلى أن تم تعيين خالد بن عبد الله القسري أميرا على مكة، فأقسم أن يبطش بمن يأوي ابن جبير أو يتستر عليه. فسعى الناس إلى ابن جبير ينصحونه بالهرب.
فقال سعيد: والله لقد فررت حتى صرت استحي من الله، ولقد عزمت على أن أبقى في مكاني هذا، وليفعل الله بي ما يشاء. وبالفعل أطبق جنود القسري على بيت سعيد فقيدوه وأخذوه وأخذت ابنته تبكي وتمسك به فنحاها بعيدًا عنه وقال لها: قولي لأمك يا بنية: إن موعدنا الجنة إن شاء الله.
أخذ الجند الإمام الحبر العابد سعيد بن جبير وأدخلوه على الحجاج، فلما صار عنده نظر إليه الحجاج في حِقدٍ وقال: ما اسمُك؟ فقال: سعيد بن جبير، فقال: بل شقيٌ بنُ كُسَيْرٍ، فقال: بل كانت أُمِّي أعلم باسمي منك، فقال: ما تقول في مُحمَّدٍ؟
قال: تعني مُحمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟ ! فقال نعم: قال: سيدُ ولد آدم، النبيُّ المصطفى.. خيرُ من بقي من البشر، وخيرُ من مضى.. حمل الرسالة، وأدى الأمانة.. ونصح لله، ولكتابه، ولعامَّةِ المُسلمين، وخاصتهم، قال: فما تقول في أبي بكر؟
قال: هو الصّدّيق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذهب حميدًا، وعاش سعيدًا.. ومضى على منهاج النبي صلوات الله وسلامه عليه، لم يُغيّر ولم يُبدِّلْ، قال: فما تقول في عمر؟ ! قال: هو الفاروق الذي فرق الله به بين الحق والباطل..
وخيرةُ الله وخيرةُ رسوله، ولقد مضى على منهاج صاحبيه.. فعاش حميدًا، وقتل شهيدًا، قال: فما تقول في عثمان، قال: هو المُجَهِّز لجيش العُسرة.. الحافر بئر رُومة.. المشتري بيتـ ا لنفسه في الجنة.. صِهْرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه، ولقد زوجه النبي بوحي من السماء، وهو المقتول ظُلمـ ا، قال: فما تقول في علي؟ !
قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من أسلم من الفتيان.. وهو زوجُ فاطمةَ البتول، وأبو الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، قال: فأيُّ خلفاء بني أمية أعجب لك؟ قال: أرضاهم لخالقهم.
قال: فأيهم أرضى للخالق؟ قال: علمُ ذلك عند الذي يعلم سرهم ونجواهم، قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت أعلمُ بنفسك، قال: بل أريد علمك أنت، قال: إذن يسُوءك ولا يسرُّك، قال: لابد من أن أسمع منك، قال: إني لأعلم أنك مُخالفٌ لكتاب الله تعالى.. تُقدم على أمور تريد بها الهيبة.
وهي تُقحمك في الهلكة، وتدفعك إلى النار دفعـ ا، قال: أما والله لأقتُلنك، قال: إذن تُفسد علي دُنيايَ، وأُفسد عليك آخرتك، قال: اختر لنفسك أي قتلة شئت، قال: بل اخترها أنت لنفسك يا حجاج..
فوالله ما تقتلني قتلةً إلا قتلك الله مثلها في الآخرة، قال: أفتريد أن أعفو عنك؟ قال: إن كان عفوٌ فمن الله تعالى.. أما أنت فلا براءة لك ولا عذر. فاغتاظ الحجاج وقال: السَّيف والنطع يا غلام، فتبسم سعيد، فقال له الحجاج: وما تبسمك؟ !
قال: عجبتُ من جراءتك على الله وحلم الله عليك، فقال: اقتله يا غلام، فاستقبل القبلة وقال: (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفـ ا وما أنا من المشركين) فقال: حرفوا وجهه عن القبلة، فقال: (فأينما تولوا فثم وجه الله) فقال: كُبُّوه على الأرض، فقال: (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى) فقال: اذبحوا عدو الله، فما رأيت رجلاً أدعى منه لآيات القرآن.
فرفع سعيدٌ كفيه وقال: اللهم: لا تسلِّط الحجاج على أحدٍ بعدي.
لم يمض على قتل سعيد بن جبير غير خمسة عشر يومـ ا حتى أصيب الحجاج بحمى عنيفة، واشتدت عليه وطأة المرض، فكان يغفو ساعةً ويفيق أخرى، وكان يستيقظ من غفوته القصيرة فزعا مذعورًا وهو يصيح: هذا سعيد بن جبير آخذٌ بخناقي، هذا سعيد بن جبير يقول: فيم قتلتني؟ !
ثم يبكي ويقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ ! ! رُدوا عني سعيد بن جبير. تدهورت حالة الحجاج بسرعة، وكان يشكو لمن حوله أن ما أصابه كان بدعوة سعيد بن جبير، وما لبث أن مات غير مأسوف عليه، وقُطِع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
موقف بن جبير كان بطوليا في ساعة موته، رباطة جأش نادرة، وثقة بموعود الله واضحة، وطمأنينة وهدوء وهو على بعد لحظات قليلة من ضرب عنقه. لكن هنا نعود لسؤالنا الأول، هل كان قراره صائبا بالخروج على الحجاج ومبايعة ابن الأشعث؟ أم كان الأولى اعتزال هذه الفتنة وأن يظل على رسالته في تعليم الناس ودعوتهم وتربيتهم؟. وهنا رأيان لهما وجاهة وقوة.
الرأي الأول يرى أن ما قام به ابن الأشعث كان واجبا وضروريا، لأن العلماء هم قدوة الأمة، وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. وأن الناس إذا رأوا علماءهم يرضون بظلم الحجاج وبطشه فإنهم يفقدون الثقة فيهم، وأن سكوتهم ربما يغري الحجاج في التمادي في غيه وظلمه وعدوانه. وإذا ظلم الحاكم وسكت العالم، فأي خير يرجى في هذه الأمة؟.
ولا عبرة هنا بالنتائج لأنها في علم الغيب، وليس لنا أن نحاكم رأي ابن جبير بما حدث بعد ذلك، لأنه لو قدر الله الغلبة لابن الأشعث على الحجاج لكان للرافضين لموقف بن جبير رأي آخر. ثم إن الله عهد لرسله الكرام ولورثتهم من العلماء ألا يخافوا في الله لومة لائم وتعبدهم بخشيته وحده (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله).
وهناك رأي مقابل، لا ينكر بطبيعة الحال مقام سعيد بن جبير وفضله وورعه وعلمه، ولكنه يرى أن الأولى عدم النزول لمعترك السياسة، وأن يصان العلم والعلماء من الابتذال بسبب تقلب أمزجة وأهواء أهل السياسة.
وأن كلمة حق عند سلطان جائر كالحجاج لا تعني الخروج عليه بقوة السلاح، وأن الدخول في أتون هذه الفتن كثيرا ما يحرم الأمة من علمائها ودعاتها كما حدث هنا، إذ ظل سعيد بن جبير متخفيا عشر سنوات والناس محرومون من عطائه وكنوز علمه.
وإن البطش بعالم في قامة ابن جبير ربما يثير مخاوف الناس ويعلي راية الباطل. وقد عاصر بعض الصحابة رضي الله عنهم فتنة وتسلط الحجاج ورأوا أن الإنكار عليه بالقوة سيؤدي لمنكر أكبر، فاعتزلوه ومنهم من كان بالعراق في أوج سطوة الحجاج مثل أنس بن مالك رضي الله عنه.
ويمكن أن يكون هناك رأي ثالث وسط بين الرأيين، يفرق بين حالة وحالة وبين ظروف وظروف. فالأزمة التي وقعت بين الحجاج وابن الأشعث لا يمكن أن نصفها بأنها أزمة بين الحق والباطل ونحن مطمئنون.
بل الأقرب أن تكون أزمة فيها قدر كبير من الصراع على السلطة وإن تستر ابن الأشعث بالدفاع عن الحق والغضب لما نزل بمن دخلوا في الإسلام من أهل الذمة ولإماتة الحجاج لوقت الصلاة وأظهر نفسه بأنه ما أراد بثورته إلا تخليص البلاد والعباد من ظلم الحجاج.
ولم يكن هذا صحيحا، لأن ابن الأشعث كان من المقربين إلى الحجاج والمخلصين له، ولولا حماقة الحجاج وتصغيره لقائد عسكري وهو في ميدان القتال لما سقطت هذه الآلاف ولكن قدر الله وحكمته غالبة.
وقد ظهرت نوايا ابن الأشعث واضحة بعد هزيمته، إذ هرب ولجأ إلى رتبيل ملك الترك!، وقد بذل الحجاج بعد ذلك أموالا طائلة وضغط على رتبيل بالترغيب والترهيب ليسلمه له. ذلك الصراع السياسي، وأمثلته كثيرة عبر التاريخ ربما تخفى تفاصيله عن علماء الشريعة والدعاة إلى الله لأنهم بمنأى عن هذا المعترك المعقد وعن دهاليزه الخبيثة.
ففي مثل هذه الحالات، قد يبدو أحد المتصارعين على السلطة، أنه نصير الحق وربما ألهب حماس الناس وأسر عواطفهم ببلاغته وبطولته. وأما إن كان الحق واضحا لا لبس فيه، بعيدا عن الصراعات السياسية التي هدفها الدنيا والاستئثار بالسلطة فيكون ساعتها الحق أحق أن يتبع مهما كان ثمنه باهظا وتكاليفه ثقيلة.