نظرة إلى العقم.. بعمق
بينما كنت في عيادتي المتخصصة في الطب النفسي، إذ جاءني رجل عريض المنكبين، طويل القامة، قوي البنية، "مشرئب الأعناق·· شلولوخ" (على حد وصف عادل إمام)، وعندما فتحت الممرضة له الباب، كاد أن يغمى عليها فقد أفزعتها ضخامته، بينما فرحتُ فرحا شديدا، فأنا بحاجة إلى من يعطيني نقودا أشتري بها علبة سجائر، حيث كدت أن أقلع عن التدخين (بسبب شدة "الزلط" لا قوة الإرادة)، إذ لم يدخل عيادتي أي مغفل منذ بضعة شهور، وأنا مهدد بالإفلاس، والممرضة تهدد بالإنتحار إذا لم تحصل على حقوقها المشروعة، كاملة غير منقوصة·
وعندما دخل "الضخم" حجرة
العلاج، كان أول ما لفت انتباهه لوحة داخل إطار على الجدار، مكتوب عليها
"الرجاء الدفع مسبقا"، فقال على الفور: "آو·· علاش راني في طاكسي
بين الولايات؟"·
وبعد أن قبضت ثمن علاجه، استأذنته
لشراء السجائر، وعندما عدتُ وجدته يكتب رقم هاتفه النقال على ورقة للممرضة التي
تبحث عن عريس منذ سنوات، ومن دون مقدمات، أجلسته على كرسي حديدي صدئ حتى يشعر
بالراحة، فالراحة والإطمئنان أساس العلاج النفسي، وطلبت منه أن يخبرني بمشكلته
التي جاءني من أجلها، فطلب انصراف الممرضة، فأعطيتها بضعة دنانير، وقلت لها:
"روحي اشري كوجاك"·
ظننت أن مشكلته حساسة إلى الحد
الذي يجعله غير قادر على سرد تفاصيلها في حضور امرأة غير أنه فاجأني وهو يخبرني
أنه لا يريد أن تعرف الممرضة أنه متزوج، ففقد أعجبه طول قامتها، وهو ينوي الزواج
بها بعد أن يطلق زوجته، إذا لم يجد حلا لمشكلته··
ومشكلة صاحبنا هذا هي العقم، فهو
متزوج منذ أكثر من عشر سنوات، ولم يرزقه الله حتى الآن بولد أو بنت، وقد أثبتت
التحاليل الطبية أن "الخلل" على مستواه هو وليس على مستوى زوجته، ومع
ذلك فهو غاضب منها، ولا يجد لذلك سببا، فقط يظن أنها "متورطة" معه في
مشكلته هذه، التي تطورت، فأصبح الرجل يعيش أزمة نفسية كبيرة، فهو كما قال لي لا
يتصور أن يعيش بقية حياته من غير أولاد، ولذلك فهو يفكر في أن يطلق زوجته، ويتزوج
ممرضتي، على سبيل التغيير لا أكثر·
أمسكتُ "الزبون" من
ذراعه (حتى أوهمه بأني مهتم به)، وقلت له الآتي: "يا سيدي أنت في نعمة عظيمة،
لا يدركها إلا من فقدها·· إن العقم أيها الرجل العظيم في أيامنا هذه أمر رائع يسعى
إليه كثيرون، فقد أصبح الإنجاب مشكلة"·
نظر صاحبنا -وهو يظن أنه عظيم
فعلا!- إليّ مندهشا وهو يقول: "كيف ذلك؟"
قلت له: "زيدلي 200 دينار
نقولك"·
أخرج الرجل العظيم من جيبه ألف
دينار، قائلا: "هاك 100 ألف·· راك بديت تفرحني"·
أمسكت ورقة الألف دينار، وتأكدت
بأنها ليست مزورة، ثم قلت له: >تأمل يا سيدي أحوال الدنيا·· لو رزقك الله بولد،
فسيكون أول ما تضطر لشرائه القماط و"ليكوش"، ثم سيكبر فتضطر لختانه
"بالدراهم"، وعندما يدخل المدرسة ستجد نفسك مجبرا على أن تشتري له
"شاحنة" من "الأدوات المدرسية" التي يحملها على ظهره ليصاب
بمرض عضال يجعلك تنفق عليه كل أموالك لتعالجه، وعندما يشعر بأنه بحال أفضل يطلب
منك أن تزوجه، فتندم على اليوم الذي أطل عليك فيه هذا "البغل"!
أما لو رزقك الله ببنت، فقد تسعد
في البداية، وتظن أنك ستحصل على مبلغ مالي محترم مقابل تزويجها (عندما تأخذ نصيبك
من مهرها)، فإذا بك تكتشف أن تلك كانت أضغاث أحلام، خصوصا إذا بدأت ابنتك استعمال
الماكياج وهي تلميذة في الإبتدائي، فأنت لن تصرف عليها فقط، وإنما عليك أن تحسن
التصرف مع المعجبين بها، وذلك بصرفهم عبر قنوات الصرف الصحي للمياه القذرة مثلهم··
والبقية تأتي··
ثم مسحت دمعة تمساحية ذرفتها من
أجل الألف دينار التي أعطانيها، وقلت له: "ما رأيك·· أليس العقم نعمة؟"،
فابتسم الرجل المغفل العظيم، ثم خرج فرحانا مسرورا·
وبعد دقائق، جاء رجل آخر، أقل
ضخامة وأكثر وسامة، وابتسمت الممرضة في وجهه حتى رأى ضرسة عقلها (أشك في أن عندها
عقلا)، وعندما هم بدفع ثمن العلاج مسبقا، كما ينص عليه دستور عيادتي
"المعدل"، ضربت زوجتي على كتفي وهي تقول: "إستيقظ يا كسول، ليس
بالنوم تحصل على المال··"، فصفعتها مبتسما وأنا أصرخ: "خليني على الأقل
نخلص"!..
الشيخ. ب
خربشة ساخرة نُشرت على أسبوعية
"الطبيب" في ديسمبر 2006