"الجزائري لا يركع إلا لله"!
يُنسب إلى الرئيس الراحل هواري بومدين، رحمة الله عليه، قول مازال يردده كثير من الجزائريين بكثير من الفخر حتى الآن جاء فيه أن الجزائريين "لا يحنون رؤوسهم إلا في المساجد".. وتبدو هذه العبارة مناسبة تماما لوصف المقاومة الشرسة التي لقيها الاستعمار الفرنسي في الجزائر منذ دخوله إليها سنة 1830، إلى غاية خروجه منها ذليلا مهزوما في جويلية 1962، وهي مقاومة تجسدت في شكل ثورات متتالية أثبتت لفرنسا بما لا يدع مجالا للشك أن الجزائري لا يركع إلا لله!
لقد
أخفق الاستعمار الفرنسي طيلة 132 سنة في تركيع الجزائريين الذين برهنوا
أنهم من طينة خاصة، طينة العربي بن مهيدي.. وأنهم لا يركعون إلا للخالق
الجبار.. وجاءت ثورة 1 نوفمبر 1954، التي تعد أعظم
ثورة في القرن العشرين تتويجا لتجارب نضالية طويلة قدم الشعب الجزائري
خلالها قوافل من الشهداء الذين روت دماءهم أرض الجزائر، لتكون حصيلة
المليون ونصف المليون شهيد مجرد جزء من "فاتورة" ضخمة لم تتردد الجزائر في
تقديمها مقابل استرداد حريتها، ولا يبالغ المؤرخون المنصفون حين يقولون أن
عدد شهداء الجزائر منذ 1830 ربما زاد عن الخمسة ملايين شهيد..
وقد
راهنت فرنسا كثيرا على عامل الزمن واعتقدت أن الجزائري الذي لا يركع إلا
للواحد القهّار يمكنه أن "يتعود" على واقع الاستعمار مع مرور الوقت،
ويستسلم لهذا الواقع البئيس، غير أن الجزائريين رفضوا أن يتحولوا إلى
فرنسيين، أو أتباع لفرنسا، مع الوقت، ولم يزدهم تتالي السنوات واستمرار
الجرائم الاستعمارية إلا إصرار على التحرير، وقد آمنوا بأنهم قادرون على
كسر شوكة الاستعمار رغم قلة عددهم وتواضع إمكانياتهم، قياسا لإمكانيات
العدو المدعوم مباشرة من طرف حلف الشمال الأطلسي، وأيقنوا بأنهم يحظون
بتأييد إلهي ومن أجل ذلك كانت ثورة التحرير ثورة مباركة بكل المقاييس، ولم
يتأخر نصر الله الذي جعل فئة قليلة عددا وعدة تغلب فئة كثيرة العدد والعدة،
وبعد أقل من ثماني سنوات من اندلاع الثورة المباركة كان حلم الاستقلال قد
أصبح حقيقة.. بفض الله وشجاعة وإرادة الخيّرين من أبناء الجزائر.. "منهم من
قضى نحبه.. ومنهم من ينتظر.. وما بدّلوا تبديلا"..
الزمن لا يمحو جرائمك يا باريس!
ومثلما
راهنت فرنسا الاستعمارية على عامل الزمن خلال حقبة الاحتلال لفرض واقع
الاستدمار واعتقدت أن الجزائريين "سيقبلون" بالواقع الاستعماري مع مرور
الوقت، راهنت السلطات الفرنسية، في فترة ما بعد استقلال الجزائر، على عامل
الزمن أيضا لفرض واقع النكران، نكران الجرائم الاستعمارية وضحاياها
الجزائريين الكثيرين، وظنت أنها ستصبح صديقة للجزائر مع مرور الوقت، وأن
الجزائريين وإن لم يسامحوها ولن يسامحوها على ما اقترفته من جرائم في حق
إخوانهم وآبائهم وأجدادهم فإنهم سينسون تلك الجرائم مع مرور الوقت، فتصبح
نسيا منسيا، ولكن هيهات هيهات، فالجزائريون لم ولن ينسوا جرائم الاستعمار،
بدليل أن مطلب تجريم الاستعمار ـ المجرم بإجماع كل العاقلين على الأرض ـ ظل
أبرز مطلب "خارجي" للجزائر على مدى عقود عديدة، وبعد نصف قرن من نهاية
الحقبة الاستعمارية مازال أبناء الجزائر يطالبون فرنسا بالاعتراف بجرائم
الاستعمار ومن ثمة الاعتذار عنها وتعويض ضحاياها!
ولكن
بين ما يطلبه الجزائريون، وما تريده فرنسا، هوة سحيقة تجعل الاعتراف
الفرنسي الرسمي بالجرائم الاستعمارية حلما بعيد المنال، أما الاعتذار
والتعويض فلم يرتقيا بعد إلى مصاف الأحلام، ومازالا مجرد وهمين يتوهمهما
المتفائلون بتوبة رسمية فرنسية، ولو بعد حين..
والظاهر
أن معظم جرائم الاستعمار تبقى دون عقاب، في الحياة الدنيا على الأقل، ولنا
في تجارب غيرنا دروس وعبر، ولعل آخر تجربة تستحق التوقف عندها بإمعان
تجربة الشعب العراقي الشقيق الذي ما يزال يعاني تحت وطأة الاحتلال الغربي،
والذي كشفت الوثائق السرية المنشورة أخيرا مدى الظلم الذي تعرض له، وكشفت
أيضا بعض أسماء المجرمين الذين سفكوا دماء أبنائه، ومع ذلك لم تتحرك أجهزة
العدالة في العالم لوضعهم تحت طائلة العقاب، أو على الأقل التحقيق،
وبالتأكيد فإن الجرائم الاستعمارية قد تبقى بلا عقاب لمدة طويلة، ولكنها لن
تبقى كذلك إلى الأبد، وإن بقيت بعيدة عن دائرة العقاب في هذه الحياة، فإن
الآخرة خير وأبقى..
الشيخ. ب