"رحمك الله يا هوفمان"..
عنوان مقال كتبه الدكتور عادل عفيفي، ونشرته صحيفة مصرية مؤخرا، ومن يقرأ مثل هذا العنوان قد يبدو له لأول وهلة أن الكاتب المصري يريد السخرية، فهوفمان اسم أعجمي، ولا يبدو بالمرة اسما لشخص مسلم يستحق أن ندعو له بالرحمة، ولكن من يقرأ المقال يكتشف حقائق مثيرة للإعجاب بهذا الرجل "هوفمان" الذي يستحق كل التقدير وألف دعاء بالرحمة والمغفرة وجنان الخلد..
إنه
مراد هوفمان الدبلوماسي الألماني الكبير، الذي سبق له أن اشتغل سفيرًا
لألمانيا في الجزائر في الفترة بين 1987 و1990، بل إن الجزائر كانت بوابته
الأولى نحو اعتناق الدين الإسلامي، فهو قد عرف الجزائر في السنوات الأخيرة
لثورة التحرير المباركة، حيث تأثر كثيرا بقوة إيمان الجزائريين وصبرهم على
الطغيان الفرنسي الاستعماري، كما أعجب بحسن سلوكهم ومعاملتهم الجيدة له
ولزوجته، وقرر بناء على ذلك الاطلاع على القرآن الكريم، وبعد سنوات اهتدى
لاعتناق دين الله الحنيف، ولم يكتف بالإسلام، بل سخر فكره للدفاع عنه، حتى
سلم روحه إلى بارئها فاستحق أن نقول له"رحمك الله يا هوفمان"..
من هو هوفمان؟
في مقاله"رحمك الله يا هوفمان".. يقدم الدكتور عادل عفيفي تعريفا موجزا رائعا للراحل هوفمان يقول فيه:
هو الدكتور مراد فيلفريد هوفمان Murad Wilfried Hofmann، ألماني الجنسية، وديانته السابقة المسيحية الكاثوليكية .
في
مقتبل عمره تعرض هوفمان لحادث مرور مروِّع، فقال له الجرّاح بعد أن أنهى
إسعافه: "إن مثل هذا الحادث لا ينجو منه في الواقع أحد، وإن الله يدّخر لك
يا عزيزي شيئًا خاصًّا جدًّا".
نال
مراد فيلفريد هوفمان المولود عام 1931م شهادة الدكتوراه في القانون من
جامعة هارفارد، وعمل كخبير في مجال الدفاع النووي في وزارة الخارجية
الألمانية، ثم مديرًا لقسم المعلومات في حلف الناتو في بروكسل من عام 1983
حتى 1987م، ثم سفيرًا لألمانيا في الجزائر من 1987 حتى 1990م، ثم سفيرًا في
المغرب من 1990 حتى 1994م. وهو متزوج من سيدة تركية، ويقيم حاليًا في
تركيا.
وصدّق
القدر حَدْسَ الطبيب، إذ اعتنق د.هوفمان الإسلام عام 1980م بعد دراسة
عميقة له، وبعد معاشرته لأخلاق المسلمين الطيبة في المغرب، وكان إسلامه
موضع نقاش بسبب منصبه الرفيع في الحكومة الألمانية.
قصة إسلامه.. وعلاقته بالجزائر
قال
هوفمان: في اختبار القبول بوزارة الخارجية الألمانية، كان على كل متقدم أن
يلقي محاضرة لمدة لا تتجاوز خمس دقائق في موضوع يُحدَّد عشوائيًّا،
ويُكلَّف به قبلها بعشر دقائق، ولكم كانت دهشتي عندما تبين لي أن موضوع
محاضرتي هو "المسألة الجزائرية"!
وكان
مصدر دهشتي هو مدى علمي بهذا الموضوع، وليس جهلي به. وبعد شهور قليلة من
الاختبار، وقبل أن أتوجه إلى جنيف بوقت قصير، أخبرني رئيس التدريب، عندما
التقينا مصادفة أثناء تناولنا للطعام، أن وجهتي قد تغيرت إلى الجزائر. وفي
أثناء عملي بالجزائر في عامي 1961/1962م، عايشت فترة من حرب استمرت ثماني
سنوات بين قوات الاحتلال الفرنسي وجبهة التحرير الوطني الجزائرية، وانضمَّ –
أثناء فترة وجودي هناك – طرف ثالث هو "منظمة الجيش السري"، وهي منظمة
إرهابية فرنسية، تضم مستوطنين وجنودًا متمردين، ولم يكن يوم يمر دون أن
يسقط عدد غير قليل من القتلى في شوارع الجزائر، وغالبًا ما كانوا يُقتَلون
رميًا بالرصاص على مؤخرة الرأس من مسافة قريبة، ولم يكن لذلك من سبب إلا
كونهم مسلمين، أو لأنهم مع استقلال الجزائر.
شكَّلت
هذه الوقائع الحزينة خلفية أول احتكاك لي عن قربٍ بالإسلام، ولقد لاحظت
مدى تحمل الجزائريين لآلامهم، والتزامهم الشديد في شهر رمضان، ويقينهم
بأنهم سينتصرون، وسلوكهم الإنساني وسط ما يعانون من آلام. وكنتُ أدرك أن
لدينهم دورًا في كل هذا، ولقد أدركت إنسانيتهم في أصدق صورها، حينما تعرضت
زوجتي للإجهاض تحت تأثير "الأحداث" الجارية آنذاك. فلقد بدأت تنزف عند
منتصف الليل، ولم يكن باستطاعة سيارة الإسعاف أن تحضر إلينا قبل الساعة
السادسة صباحًا؛ بسبب فرض حظر التجول، وبسبب شعار "القتل دون سابق إنذار"
المرفوع آنذاك. وحينما حانت الساعة السادسة، أدركت وأنا أُطِلُّ من نافذة
مسكني في الطابق الرابع، أن سيارة الإسعاف لا تستطيع العثور علينا، بعد
تأخير طال كثيرًا، كنَّا في طريقنا متجهين إلى عيادة الدكتور، وكانت زوجتي
تعتقد – في تلك الأثناء - أنها ستفقد وعيها؛ ولذا - وتحسبًا للطوارئ - راحت
تخبرني أن فصيلة دمها هي O ذات RH
سالب، وكان السائق الجزائري يسمع حديثها، فعرض أن يتبرع لها ببعض من دمه
الذي هو من نفس فصيلة دمها. ها هو ذا المسلم يتبرع بدمه، في أتون الحرب،
لينقذ أجنبية على غير دينه.
ولكي
أعرف كيف يفكر ويتصرف هؤلاء السكان الأصليون المثيرون للدهشة، بدأت أقرأ
"كتابهم" القرآن في ترجمته الفرنسية، ولم أتوقف عن قراءته منذ ذلك الحين
حتى الآن، وحتى تلك اللحظة، لم أكن قد تعرفت على القرآن إلا من خلال
النوافذ المفتوحة لكتاتيب تحفيظ القرآن في ميزاب جنوب الجزائر، حيث يحفظه
أطفال البربر، ويتلونه في لغة غريبة عنهم، وهو ما دهشت له كثيرًا. وفيما
بعد أدركت أن حفظ وتلاوة القرآن، باعتباره رسالة الله المباشرة، فرض تحت
الظروف كافة.
وبعد 25 عامًا من عملي بالجزائر لأول مرة، عُدتُ إليها سفيرًا في عام 1987م.
ومنذ
اعتُمِدتُ سفيرًا في المغرب، المجاور للجزائر، في عام 1990م، يندر أن
تفارق مخيلتي صورة الجزائر التي ما تزال تعاني آلامًا مأساوية، فهل يمكن أن
يكون ذلك كله محض مصادفة؟!
جاذبية الدين الإسلامي
يتابع
هوفمان حديثه عن جاذبية الإسلام، فيقول: "إنني أدرك قوة جاذبية فن هذا
الدين الآن أفضل من ذي قبل؛ إذ إنني محاط في المنزل الآن بفن تجريدي، ومن
ثَمَّ بفن إسلامي فقط. وأدركها أيضًا عندما يستمر تاريخ الفن الغربي عاجزًا
عن مجرد تعريف الفن الإسلامي. ويبدو أن سره يكمن في حضور الإسلام في
حميمية شديدة في كل مظاهر هذا الفن، كما في الخط، والأرابيسك، ونقوش
السجاد، وعمارة المساجد والمنازل والمدن. إنني أفكر كثيرًا في أسرار إضاءة
المساجد، وفي بناء القصور الإسلامية، الذي يُوحي بحركة متجهة إلى الداخل،
بحدائقها الموحية بالجنة بظلالها الوارفة، وينابيعها ومجاريها المائية، وفي
الهيكل الاجتماعي - الوظيفي الباهر للمدن الإسلامية القديمة (المدينة)
الذي يهتم بالمعيشة المتجاورة، تمامًا كما يهتم بإبراز موقع السوق،
وبالمواءمة أو التكيف لدرجات الحرارة وللرياح، وبدمج المسجد والتكية
والمدرسة والسبيل في منطقة السوق ومنطقة السكن. وإن من يعرف واحدًا من هذه
الأسواق - وليكن في دمشق، أو إسطنبول أو القاهرة أو تونس أو فاس - يعرف
الجميع، فهي جميعًا، كبرت أم صغرت، منظمات إسلامية من ذات الطراز الوظيفي.
ويقول
هوفمان: إنني كنت قريبًا من الإسلام بأفكاري قبل أن أُشهِرَ إسلامي في عام
1980م بنطق الشهادتين متطهرًا كما ينبغي، وإن لم أكن مهتمًّا حتى ذلك
الحين بواجباته ونواهيه فيما يختص بالحياة العملية. لقد كنت مسلمًا من
الناحية الفكرية أو الذهنية، ولكني لم أكن كذلك بعدُ من الناحية العملية،
وهذا على وجه اليقين ما يتحتم أن يتغير الآن جذريًّا، فلا ينبغي أن أكون
مسلمًا في تفكيري فقط، وإنما لا بد أن أصير مسلمًا أيضًا في سلوكياتي.
الإسلام يغير حياة هوفمان..
ويحكي
الدكتور مراد هوفمان السفير الألماني الأسبق بالجزائر عن أبرز مظاهر تحوله
إلى الإسلام، وهو رفضه لاحتساء الخمر واختفاء زجاجة النبيذ الأحمر من فوق
مائدة طعامه، اهتداءً بتعاليم دينه الجديد الذي يحرِّم الخمر؛ يقول هوفمان:
"لقد ظننت في بادئ الأمر أنني لن أستطيع النوم جيدًا دون جرعة من الخمر في
دمي، بل إن النوم سيجافيني من البداية، ولكن ما حدث بالفعل كان عكس ما
ظننت تمامًا، فنظرًا لأن جسمي لم يعد بحاجة إلى التخلص من الكحول، أصبح
نبضي أثناء نومي أهدأ من ذي قبل. صحيح أن الخمر مريح في هضم الشحوم
والدهون، لكننا كنا قد نحَّينا لحم الخنزير عن مائدتنا إلى الأبد، بل إن
رائحة هذا اللحم الضار (المحرم) أصبحت تسبب لي شعورًا بالغثيان".
وهكذا جعل الإسلام هوفمان يفيق من سكره لعبادة ربه؛ التزامًا بما حرَّمه الله عليه، وطاعةً يلتمس بها مرضاة الله تعالى.
"ليبق عند العرب..!
ألماني نال شهادة دكتور في القانون من جامعة هارفرد، وشغل منصب سفير ألمانيا في عدة دول منها الجزائر
في
مقتبل عمره تعرض هوفمان لحادث مرور مروّع، فقال له الجرّاح بعد أن أنهى
إسعافه : "إن مثل هذا الحادث لا ينجو منه في الواقع أحد، وإن الله يدّخر لك
يا عزيزي شيئاً خاصاً جداً".
وصدّق القدر حدس هذا الطبيب إذ اعتنق د.هوفمان الإسلام بعد دراسة عميقة له، وبعد معاشرته لأخلاق المسلمين الطيبة في المغرب..
ولما أشهر إسلامه حاربته الصحافة الألمانية محاربة ضارية، وحتى أمه لما أرسل إليها رسالة أشاحت عنها وقالت :"ليبق عند العرب !.
ولكن
هوفمان لم يكترث بكل هذا، يقول : "عندما تعرضت لحملة طعن وتجريح شرسة في
وسائل الإعلام بسبب إسلامي، لم يستطع بعض أصدقائي أن يفهموا عدم اكتراثي
بهذه الحملة، وكان يمكن لهم العثور على التفسير في هذه الآية (( إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) .
وبعد
إسلامه ابتدأ د.هوفمان مسيرة التأليف و من مؤلفاته، كتاب (يوميات مسلم
ألماني)، و(الإسلام عام ألفين) و(الطريق إلى مكة) وكتاب (الإسلام كبديل)
الذي أحدث ضجة كبيرة في ألمانية .
يتحدث
د.هوفمان عن التوازن الكامل والدقيق بين المادة والروح في الإسلام فيقول :
"ما الآخرة إلا جزاء العمل في الدنيا، ومن هنا جاء الاهتمام في الدنيا،
فالقرآن يلهم المسلم الدعاء للدنيا، وليس الآخرة فقط ((رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً)) وحتى آداب الطعام
والزيارة تجد لها نصيباً في الشرع الإسلامي".
"مراد" يدافع عن الإسلام
ويعلل
د.مراد ظاهرة سرعة انتشار الإسلام في العالم، رغم ضعف الجهود المبذولة في
الدعوة إليه بقوله :"إن الانتشار العفوي للإسلام هو سمة من سماته على مر
التاريخ، وذلك لأنه دين الفطرة المنزّل على قلب المصطفى ".
"الإسلام
دين شامل وقادر على المواجهة، وله تميزه في جعل التعليم فريضة، والعلم
عبادة … وإن صمود الإسلام ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في جانب
كثير من الغربيين خروجاً عن سياق الزمن والتاريخ، بل عدّوه إهانة بالغة
للغرب !!".
ويتعجب هوفمان من إنسانية الغربيين المنافقة فيكتب:
"
في عيد الأضحى ينظر العالم الغربي إلى تضحية المسلمين بحيوان على أنه عمل
وحشي، وذلك على الرغم من أن الغربي ما يزال حتى الآن يسمي صلاته (قرباناً) !
وما يزال يتأمل في يوم الجمعة الحزينة لأن الرب (ضَحَّى) بابنه من
أجلنا!!".
من أقوال الراحل هوفمان:
- إن القرآن رسالة الله المباشرة، وحفظه وتلاوته فرض تحت الظروف كافة.
-
"ما الآخرة إلا جزاء العمل في الدنيا، ومن هنا جاء الاهتمام في الدنيا،
فالقرآن يُلهِم المسلم الدعاء للدنيا، وليس الآخرة فقط: "رَبَّنَا آتِنَا
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً"، وحتى آداب الطعام
والزيارة تجد لها نصيبًا في الشرع الإسلامي".
- "إن الانتشار العفوي للإسلام هو سمة من سماته على مرِّ التاريخ؛ وذلك لأنه دين الفطرة المنزّل على قلب المصطفى".
-
"الإسلام دين شامل وقادر على المواجهة، وله تميزه في جعل التعليم فريضة،
والعلم عبادة…،وإن صمود الإسلام ورفضه الانسحاب من مسرح الأحداث، عُدَّ في
جانب كثير من الغربيين خروجًا عن سياق الزمن والتاريخ، بل عدّوه إهانة
بالغة للغرب!!".
- "إن الله سيُعِينُنا إذا غيَّرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفنا وأفعالنا تجاه الإسلام".
-
"الإسلام هو الحياة البديلة بمشروع أبدي لا يبلَى ولا تنقضي صلاحيته، وإذا
رآه البعض قديمًا فهو أيضًا حديث ومستقبليّ، لا يحدّه زمان ولا مكان،
فالإسلام ليس موجة فكرية ولا موضة، ويمكنه الاستمرار".
"لا تستبعد أن يعاود الشرق قيادة العالم حضارياً، فما زالت مقولة "يأتي النور من الشرق " صالحة…
إن الله سيعيننا إذا غيرنا ما بأنفسنا، ليس بإصلاح الإسلام، ولكن بإصلاح موقفنا وأفعالنا تجاه الإسلام…
وكما نصحنا المفكر محمد أسد، يزجي د.هوفمان نصيحة للمسلمين ليعاودوا الإمساك بمقود الحضارة بثقة واعتزاز بهذا الدين، يقول :
"إذا
ما أراد المسلمون حواراً حقيقياً مع الغرب، عليهم أن يثبتوا وجودهم
وتأثيرهم، وأن يُحيوا فريضة الاجتهاد، وأن يكفوا عن الأسلوب الاعتذاري
والتبريري عند مخاطبة الغرب، فالإسلام هو الحل الوحيد للخروج من الهاوية
التي تردّى الغرب فيها، وهو الخيار الوحيد للمجتمعات الغربية في القرن
الحادي والعشرين".
"الإسلام
هو الحياة البديلة بمشروع أبدي لا يبلى ولا تنقضي صلاحيته، وإذا رآه البعض
قديماً فهو أيضاً حديث ومستقبليّ لا يحدّه زمان ولا مكان، فالإسلام ليس
موجة فكرية ولا موضة، ويمكنه الانتظار".
بارك الله في كل مجهوداتك
ردحذف