قدّم الإعلامي
الجزائري المخضرم حبيب راشدين قراءة تحليلية عميقة لما يسمى بالحرب على داعش،
واصفا إياها بأغرب حرب سوف يتناولها التاريخ ـ إن كان للتاريخ مستقبل ـ وقدّم
مجموعة من القرائن التي تشير إلى "الخدمات الجليلة" التي يقدمها التنظيم
لأمريكا والغرب عموما.
ودعا راشدين في مقال
متميز نشرته صحيفة الشروق اليومي إلى عدم تصديق كل ما ينقله الإعلام الغربي، وما
تبعه من إعلام عربي، حيث يتفنن في ممارسة التعتيم والتضليل بما يخدم مصالح القوى
الكبرى التي تحكم العالم، ملمحا إلى أن "داعش" قد لا تكون في النهاية
سوى نسخة معدلة من "القاعدة" جاءت لخدمة مصلحة الغرب، وهكذا يتحول حلم
دولة الخلافة من حقيقة مزعومة غلى خرافة مكشوفة..
وفيمايلي النص
الكامل لمقال حبيب راشدين الذي يعد بحق محاولة جادة لفهم ما يجري، بعيدا عن
الروايات الغربية البائسة:
نسخة
معدلة من "القاعدة".. وأغرب حرب
ماذا لو لم تكن داعش
سوى نسخة معدلة من قاعدة تسعينيات القرن الماضي التي سخرت لأُسقطت الاتحاد
السوفييتي، وأن الحرب الغربية المعلنة عليها ليست سوى مناورات تدريبية بالذخيرة
الحية، قبل نقل "الجهاديين" والرايات السود الكاذبة لزرع الفتنة والقتال
في آسيا الوسطى الإسلامية لقتال الروس بالوكالة عن الغرب المفلس؟
أغرب حرب سوف يتناولها
التاريخ ـ إن كان للتاريخ مستقبل ـ هي التي تسوق لنا اليوم على مدار الساعة ضد ما يسمى
بالدولة الإسلامية، هي بلا ريب حرب غريبة من حيث طبيعة الكيان المستهدف، ومن جهة
طبيعة ومكونات الحلف الذي يتشكل لمحاربتها واستئصالها.
الأحداث المتلاحقة
منذ تفجيرات 11 سبتمبر تحت رايات كاذبة، علمتنا واجب التوقف في كل حين عند ما يسوقه
إعلام " الماينستريم" الخاضع بالكامل لإملاءات "العقب الحديدي"
وليس بين أيدينا من أدوات المعرفة سوى البحث عن الأسئلة الجيدة التي لا تطرح في صفحات
وعلى شاشات الإعلام الغربي وملاحقه في العالم الثالث، أذكر منها أربعة.
السؤال
الأول:
"ما
هي القدرات العسكرية لتنظيم مثل "داعش" نشأ وسط محيط معادي بوسائل
بدائية، حتى تحتاج معه أعظم قوة عسكرية في العالم، مثل النيتو، يفوق إنفاقها
العسكري السنوي 1000 مليار دولار، إلى حشد كثير من دول المنطقة من العرب
والمسلمين؟
سؤال لم نطرح مثله
من قبل، حين لجأت نفس القوة إلى ذات الحشد لمحاربة دولة طالبان، التي كانت ميزانيتها
في تسيير أفغانستان لا تزيد عن 83 مليون دولار، كما لم نطرحه حين دعي حلف من 30 دولة
لقتال عراق منهك، خرج لتوه من حرب مدمرة مع إيران، فكيف نصدق حاجة الغرب اليوم إلى
هذا الحلف الضخم، القادر على تدمير الكرة الأرضية أكثر من مرة، لمواجهة قوة بدائية
مثل طالبان داعش؟
السؤال
الثاني:
ما سر هذا التوافق العالمي بين قوى هي في مواجهات مفتوحة
في ساحات أخرى، لتتوافق فجأة على واجب تشكيل حلف عالمي عابر للملل، والنحل، والمذاهب،
والطوائف، يجمع على أن "داعش" باتت تشكل أخطر تهديد على السلم العالمي، حتى
أن روسيا وإيران ونظام الأسد قد عرضوا خدماتهم على أرباب الحلف، وأبدوا استعدادهم
للمشاركة في الحرب؟
"ما هي القدرات
العسكرية لتنظيم صغير مثل "داعش" حتى تحتاج معه أعظم قوة عسكرية في العالم، يفوق إنفاقها العسكري السنوي 1000 مليار دولار،
إلى حشد واسع من العرب والمسلمين؟"
السؤال
الثالث:
ما الذي يدفع بدول
الخليج "السنية" التي خاضت حربا بلا قيود ضد النظام السوري بواسطة داعش
والنصرة وأخواتها، وكانت إلى وقت قريب تتهم ـ عن حق ـ شيعة العراق بظلم سنته
ومحاصرة مدنهم، لتدخل هكذا في شراكة مع نفس الحكومة الطائفية في العراق، في تحالف
معلن لقتال داعش وتعريض سنة الموصل والرمادي والفلوجة إلى قصف طيران النيتو، الذي رأينا
ماذا فعل بمدن ليبيا؟
السؤال
الرابع:
ينتقل بنا حتما إلى البحث عن العلاقة بين هذه الحرب
الغريبة، وحرب أكبر وأخطر غير معلنة بين الأقوياء، باتت تهدد أمن العالم بحق، مع
تعاظم جبهات المواجهة بين دول "النيتو" والدب الروسي، أخطرها ما جرى
ويجري من مواجهات عسكرية بالوكالة في أوكرينيا، واحتمال توسعها إلى دول البلطيق، وإعادة
تسخين جبهات مماثلة مع الصين؟
يحسن بنا أن نتوقف
عند هذا القدر من الأسئلة، التي لا نملك لها بالضرورة أجوبة شافية، لكنها تساعدنا
في الحد الأدنى على تحصين عقولنا وحمايتها من القصف الإعلامي اليومي، الذي يريد
منا أن نلغي طواعية عقولنا، ونستسلم للروايات الرسمية، ولما تفتريه هذه النخبة
المجرمة الفاشية العابثة بمصير البشرية.
فالسؤال الأول يمنعنا
بالضرورة من ابتلاع أسطورة داعش: "الغول الفاشي قاطع الرؤوس" الذي يحتاج
استئصاله إلى تحالف دول "النيتو" تعداد جيوشها يقدر بـ 3120000 مقاتل، لقتال
جماعة مسلحة، قالت الـ "سي آي إي" أن تعداد مقاتليها قد انتقل بقدرة
قادر من أقل من 5000 مقاتل عشية احتلالها للموصل، إلى
أكثر من 30000 مقاتل، وحتى مع تصديق هذا التقدير،
فإننا أمام مواجهة فاضحة بنسبة 100 مقاتل من جنود الحلف، مقابل واحد من
أجناد "الخليفة"، الذي يكون عليه أن يراجع النسبة الشرعية الواردة في الآيتين
65 و66 من سورة الأنفال.
فالحلف كما نرى لم يشكل
لقتال هذه العصابة الصغيرة، وإلا فأين هي أصلا مظاهر هذه الحرب الكاذبة، وقد أعلنت
منذ أكثر من شهر، لم نر منها سوى صور قليلة لقصف عربة هنا وأخرى هنالك، فيما ترك لداعش
الحبل على الغارب لتوسيع دائرة الفوضى، وترهيب أهل العراق وسورية من العرب السنة
والأكراد والمسيحيين، وكأننا بصدد مناورات تدريبية عسكرية، يدرب فيها مقاتلو داعش
بالذخيرة الحية، استعدادا لحرب أخرى، سوف تنقل إلى ساحة أخرى غير الساحة العراقية،
وهو ما أدركه السوريون والروس، فقد تكون هذه الحرب الغريبة على داعش محض غطاء
لمواجهة قادمة واسعة في سورية، أو أن القوات التي يتم تدريبها على احتلال المدن
وإدارتها، إنما تحضر لتنقل إلى آسيا الوسطى والقوقاز على أطراف حدود روسيا والصين،
وهو أكثر السيناريوهات توافقا مع طبيعة المواجهة التي بدأت بين الغرب والقطبين
الروسي والصيني، في محاولة لتجديد تجربة الحرب الناجحة ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان
بدماء ولحم المقاتلين العرب.
ولعل هذا ما يفسر ما
أبداه الروس من استعداد للمشاركة في الحرب على داعش، كما قد يفسر رفض الأمريكيين
لفكرة مشاركة الروس والإيرانيين والسوريين في الحلف والحرب، لأن الغرض لم يكن
القضاء على داعش، بل التمكين لها من استقطاب مزيد من الشباب المسلم التائه، واستكمال
تدريبه في هذه المناورات الميدانية، قبل الزج به كوقود لحرب قادمة في بؤر
الجمهوريات الإسلامية وسط آسيا، كما يجيب على السؤال الثالث المتعلق بشراكة الدول
"السنية" الخليجية في الحلف، وهي التي مولت من قبل عملية مماثلة في أفغانستان
بالمال والبنين.
ليس عندي شك أن تنظيم دولة داعش سوف "يُمكن" في الشهور القادمة من تحقيق مزيد من
الانتصارات، والتوسع داخل سورية والعراق، وربما قد يسمح له حتى بالاقتراب من بعض
المناطق في الأردن وشمال السعودية، وسوف نشهد في الشهور القادمة تشكل كثير من
الجماعات "الجهادية" في دول آسيا الوسطى، لتعلن ولاءها لخليفة داعش كما
فعلت بعض ملاحق القاعدة في المغرب الإسلامي، لتكون الدولة الإسلامية هي الممول
الأول بالمقاتلين المدربين لعملية قادمة تنقل "الجهاد" إلى تخوم روسيا
كما جاء في فيديو لداعش بثته قناة العربية، يهدد بنقل الحرب إلى القوقاز والشيشان.
مع تفحص الصورة
الأكبر للمواجهة الحقيقية، التي تتجاوز العرب والمسلمين وفتنهم المحلية، يكون
بوسعنا تتبع وقائع هذه الحرب الغريبة المعلنة ضد تنظيم، لم يكن قادرا حتى على
مواجهة جيش منهك مثل الجيش السوري، وكان يراوح في مكانه أمام جيش عراقي كثير العدد
قليل الخبرة عديم الفاعلية، بل كانت مجاميع القاعدة التي تشكل منها، قد هزمت على
أيدي صحوات عشائر الأنبار، قبل أن يسلم لها على طبق من ذهب ثاني أكبر مدن العراق، وينظم
لصالحها انسحاب أكثر من 25 ألف جندي وشرطي عراقي انهزموا أمام 500 مقاتل من داعش، ويُمكن
لهم في "غزوة" واحدة من غنيمة هائلة من الأسلحة، ومن قرابة ثلاثة ملايير
دولار كانت مودعة ببنوك الموصل.
أغرب حدث
أغرب حدث وقع هذا
الأسبوع، ومر عليه الإعلام العالمي مرور الكرام ، سوف يساعدنا على كشف جانب من
اللعبة، ويعري العلاقة الحميمة بين دولة الخليفة البغدادي وسيده أوباما. فقد احتار
كثير من المحللين أمام تردد تركية الأردوغانية في الالتحاق بالحلف، وكانت حجتها
أنها لن تجازف بحياة 43 من أعضاء قنصليتها المحتجزين في الموصل لدى داعش،. وحيث أن
السيد أوغلو ادعى أن تركية لم تدفع فدية، ولم نسمع عن عملية خارقة تكون قد نفذتها
القوات التركية الخاصة في الموصل، فلم يبق سوى افتراض واحد، وهو أن الجهة التي كانت
بحاجة إلى التحاق تركية بالحلف هي التي أقنعت "الخليفة" بتسريح الرهائن
الأتراك، كما أقنعته من قبل بصرف النظر عن الاقتراب من أربيل، وبوقف الزحف نحو
بغداد.
قد أكون مخطئا في استشراف
بعض الأجوبة، وليس لأحد ـ في هذا العالم الذي تحول فيه الإعلام إلى أداة للتعتيم
والتضليل ـ أن يدعي معرفة الحقيقة، لكن حتما يحق لنا أن نخضع ما يفد علينا من
أخبار وأحداث إلى التدقيق، بطرح الأسئلة التي يرفض الإعلام المهين أن تطرح، كما
منعنا من قبل من طرح الأسئلة البديهية حول مقدار حظوظ 19 شابا عربيا في تنفيذ
عملية معقدة مثل عملية 11 سبتمبر، وصدقنا الفيلم الهوليودي حول مقتل بن لادن بعد
مرور 10 سنوات عن وفاته الطبيعية، ولم يعد أحد يسأل عن مصير الطائرة المليزية التي
اختفت دون أثر، وسوف نصدق التقرير الفرنسي الأخير الذي ادعى أنه لا سبيل إلى معرفة
سبب سقوط طائرة الخطوط الجوية الجزائرية فوق مالي، أو نصدق مرة أخرى أن إفريقيا
مهددة بجائحة وباء إيبولا الذي ظهر منذ 38 سنة، وقتل في ذروته آنذاك (سنة 1976) أقل
من 300 شخص، قبل أن يغلق الملف ثم يعاد فتحه الآن، ويتخذ ذريعة لإنزال قرابة 4000 جندي
أمريكي بالقارة السمراء.
ولأننا مقبلون في السنوات
الثمانية القادمة (حتى سنة 2022) على أحداث دولية خطيرة متدافعة، على خلفية أزمة
اقتصادية ومالية عالمية ليس لها حلول سوى بإشعال الحروب والفتن، فإن سلاحنا الوحيد
المتاح، هو في إخضاع ما نقصف به يوميا من أخبار، وأحداث، ومواقف، إلى التمحيص
والتدقيق بطرح الأسئلة الوجيهة، التي لا يراد لنا أن نطرحها، ذلك أن الساحر الحذق
هو الذي لا يترك لك الفرصة للتدقيق في حركاته السريعة المخادعة، ونحن منذ تدبير
أحداث 11 سبتمبر تحت راية كاذبة بحضرة سحرة ولا سحرة فرعون.