-->
أخبار الجزائر والعالم أخبار الجزائر والعالم

من يحمي "ذاكرة الجزائر"؟



صانعو ثورة نوفمبر يرحلون تباعا..
من يحمي "ذاكرة الجزائر"؟
* تاريخ الجزائر يكتبه "أبناء ابن باديس" وليس "أبناء باريس"


ـ بقلم: الشيخ بن خليفة ـ
قبيل احتفال الجزائر والجزائريين بمرور ستين سنة على اندلاع ثورة نوفمبر المجيدة، أعادت عجوز فرنسية إلى الواجهة والأذهان محاولة أبناء باريس تزييف الواقع وتحريف تاريخ الجزائر، حين رددت عبارة "الجزائر فرنسية".. كلمة أوقفت مسابقة ملكة جمال الجزائر وذكّرت الجزائريين بـ"العصر الديغولي"، وذكّرتهم بشيخ العلماء المسلمين الجزائريين الأول العلامة عبد الحميد بن باديس أيضا..
العجوز الفرنسية جونيفياف دو فونتني إحدى أبرز أعضاء لجنة التحكيم في تلك المسابقة المثيرة للجدل رددت بكل وقاحة عبارة "الجزائر فرنسية"، وهو ما وصفه وزير الشباب عبد القادر خمري، بالتصريحات "المشينة"، وتسبب في ضجة كبرى برهنت عن تمسك الجزائريين بهوية بلادهم رغم كل مظاهر الفرنسة والتغريب الزاحفة على المجتمع.

الجزائر ليست فرنسا..
الجزائريون تذكروا بسبب "خرجة" تلك العجوز جنرال فرنسا شارل ديغول الذي كان يرغب في إبقاء الجزائر فرنسية إلى الأبد، وتذكروا أيضا ـ في المقابل ـ الشيخ عبد الحميد بن باديس ومقولته الشهيرة: "الأمة الجزائرية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا لو أرادت، بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد.. في لغتها، وفي أخلاقها، وعنصرها، وفي دينها، لا تريد أن تندمج ولها وطن معين هو الوطن الجزائري"..
عشية الاحتفال بمرور ستين عاما على اندلاع أعظم ثورة في القرن العشرين، ثورة نوفمبر 1954، عادت هذه المقولة الباهرة لتدوي في سماء الجزائر، وعاد معها الفخر بأمجاد ثورة صارت مرجعا للشعوب الباحثة عن التحرر..
ووسط هذا الفخر بمجد ثورة نوفمبر، تغيب عن أذهاننا في كثير من الأحيان الحاجة إلى توثيق الأحداث التي ميّزت الثورة الجزائرية، توثيقا دقيقا يجعلنا نعرف كل ما استطعنا أن نعرفه عن تاريخ بلادنا خلال تلك الفترة الممتدة من الفاتح نوفمبر 1954 إلى الخامس جويلية 1962، تاريخ لا يكتبه أبناء باريس.. بل يكتبه أبناء وأحفاد ابن باديس..

من جيل الثورة إلى "جيل الواي واي"
كان الله في عون مواليد الستينات والسبعينيات والثمانينيات بالجزائر عايشوا جيل الثورة، ويعايشون الآن "جيل الواي واي..".. وكان الله في عون الجزائر مستقبلا، فبينما تتداعى أسعار النفط، وتوشك ثروتها البترولية على النفاد، تبدو ذاكرتها في خطر حقيقي، فلو سألت أبناء المدرسة اليوم عن الثورة فإنك ستكتشف أن معظمهم لا يعرفون عنها سوى تاريخ انطلاقتها وبعض أبرز صانعيها..
ولو ألقيت نظرة على اهتمامات الكتاب والمؤرخين اليوم لوجدت الثورة في مؤخرة أولوياتهم.. تسبقها "القاعدة" و"داعش" وأخواتهما".. بدعوى أن ثورة الجزائر العظيمة صارت من الماضي وأن ما يهم حاليا هو العناية بالحاضر ومحاولة استشراف المستقبل، مع أنه من الضروري قراءة الماضي لتعزيز إيجابياته في الحاضر واستلهام قيمه الإيجابية في بناء مستقبل أفضل..
من المؤسف أن يخلف جيل الثورة خلف تربى على أيديهم "جيل الواي واي" الذي لا يدرك أنه بلاده تملك تاريخا عظيما، وأن آباءه صنعوا ثورة هي الأعظم في القرن الماضي..

ذاكرة الجزائر.. هل هي في خطر؟!
"...إن ماضي الشعوب الحية ومستقبلها ليس أياما مرت وأخرى قادمة، وليس الحاضر فاصلا بينهما، بل هو زمن واحد متواصل وعمل مستمر متكامل، وما الأمجاد التي تفتخر بها الأمم إلا ثمرات جهد مبذول في كل العصور والفصول، فليس لفرع مهما طال وتشعب واستطال أن ينتج الثمرة وحده، ولا للجذع أيضا، إلا أن الجذع يظل دائما سجل أمجادنا وحافظة أعمالنا، وخزانة تجارب أمتنا على مر الأجيال، إنه سجل يجدر بأبنائنا أن يفتخروا بمحتواه، وأن يعتزوا بمعناه، إنه كنز زاخر بالبطولات، ومعين لا ينضب من القيم والفضائل، ووسام للعزة والإباء والشموخ علقه على صدر الأمة أبناؤها الميامين من مجاهدين وشهداء ومناضلين، سيظل كذلك يغذي أجيالنا، ويمدها بالصلابة والاستمرارية في سعيها نحو الرقي والكمال..."
هذا الكلام يعود لرئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة، وهو يشير فيه إلى أهمية استلهام قيم وفضائل تاريخ بلادنا لصناعة مستقبل جيد، فيه سعي نحو الرقي والكمال، والواقع أن ذلك لن يتأتى من دون توثيق "ذاكرة الجزائر" التي تبدو في خطر حقيقي بالنظر إلى رحيل عدد معتبر من كبار صانعي ثورة التحرير المجيدة من دون الاستعانة بشهاداتهم لإنجاز كتب وكتابات توّثق أحداث الثورة.. وكذا بالنظر إلى بعض الممارسات الأنانية في كتابة التاريخ، وهي ممارسات يمكن للقارئ البسيط أن يستشفها وهو يطالع مذكرات بعض المجاهدين الذين لم يتردد بعضهم في تصفية حسابات ضيقة على حساب التاريخ والحقيقة، وعلى حساب سمعة ثورة تعد بحق أيقونة ثورات القرن العشرين بدون منازع..
هذه المعطيات تجعل "ذاكرة الجزائر" في خطر حقيقي.. ووحدهم المخلصون من أبناء الجزائر يمكنهم حماية ذاكرتها..

بعد أن صنعوه.. المجاهدون يكتبون تاريخ الثورة
"الحاضر غرس الماضي والمستقبل جني الحاضر والتاريخ سجل الزمن لحياة الشعوب والأشخاص والأمم".. من أجل ذلك لن ينسى الجزائريون تاريخهم، ولن تمحى أحداث ثورة نوفمبر العظيمة من ذاكرتهم، ولكن من الواجب المسارعة إلى كتابة تاريخ الثورة كتابة كاملة، بطريقة موضوعية لا تحكمها انفعالات ظرفية، ولا تسيطر عليها اعتبارات ذاتية لأشخاص قد يضرهم قول الحقيقة كاملة..
ومن المؤسف أن يكون دأب كثير من المختصين والباحثين والمؤرخين على ممارسة كتابة التاريخ بطريقة رد الفعل، أي انتظار حصول حادثة معينة لها علاقة بالتاريخ لتوضيح ملابسات تاريخية..
ومن الواضح أننا نعاني من غياب أعمال تأريخية متكاملة، تعطي صورة شاملة عن مختلف وقائع الثورة المجيدة، ذلك أن معظم المحاولات والاجتهادات المسجلة حتى الآن تقتصر على التأريخ لجزئيات معينة دون إعطاء الصورة الكاملة..
وبينما يرحل صانعو ثورة الفاتح نوفمبر 1954 العظيمة تباعا، ملتحقين بالرفيق الأعلى.. تتواصل عملية جمع شهادات من بقي من مجاهدين عبر التراب الوطني، فهؤلاء المجاهدون أحق وأجدر من يمكنهم كتابة التاريخ، بعد أن صنعوه، وجمع شهاداتهم الثمينة مبادرة رائعة جدا قامت بها وزارة المجاهدين التي يمكنها أن تشارك بفعالية كبيرة في كتابة التاريخ الكامل لثورة نوفمبر، وما عملية جمع شهادات المجاهدين الأحياء سوى بداية مبشرة بكثير من الخير، شريطة وضع تلك الشهادات بين أيدي باحثين ومؤرخين مهرة، يتحلون بالكفاءة والموضوعية.

يا فرنسا.. لن ننسى
في زيارته "التاريخية" إلى الجزائر، قدّم الرئيس الفرنسي فرونسوا هولاند للجزائريين "نصف اعتراف" بجرائم الاستدمار "الفرنساوي" البغيض بالجزائر، حين قال ـ وهو يتحدث أمام أعضاء غرفتي البرلمان الجزائري ـ أن الجزائريين عانوا طيلة 132 سنة من الظلم والوحشية على يد النظام الفرنسي، ليؤكد هولاند، ومن خلاله النظام الفرنسي، تمسكه بسياسة "مسك العصا من المنتصف"، من خلال تقديم أنصاف الاعترافات بجرائم "فافا"، ورفض تقديم أدنى اعتذار قد يجر إلى تقديم تعويضات للجزائر والجزائريين.
حديث هولاند عن الذاكرة وإقراره أن الجزائريين عاشوا أياما سوداء خلال حقبة الاستدمار الوحشي أكبر من مجرد إقرار بالحقيقة، وأقل من اعتراف كامل بجرائم دموية مازال كثير من الجزائريين يدفعون ثمنه، ومن أراد أن يتأكد بنفسه يمكنه أن يسأل أطفال وشباب الاستقلال الذين أصبحوا معاقين بسبب ألغام فرنسا المزروعة إلى يومنا في مناطق مختلفة من أرض الجزائر المستقلة، وهي الألغام التي كان بالإمكان حماية الأبرياء منها لو أن "فافا" تكرمت علينا بخارطة ألغامها المزروعة المقدر عددها بالملايين.
ومن أراد أن يتأكد أيضا أن الجزائريين مازالوا يدفعون ثمن جرائم فرنسا يكفيه أن يقرأ عن الآثار الوخيمة المستمرة للتجارب النووية الإجرامية المنفذة في الحمودية ورقان وعين إيكر، وغيرها..
وإضافة إلى جريمتي الألغام والإشعاعات النووية المستمرتين حتى الآن، هناك جرائم أخرى عديدة، بعضها لديه طابع معنوي، يجعل عددا غير قليل من الجزائريين يعانون مشكلة هوية، ترجمتها تلك الصور المؤسفة لجزائريين يتسابقون، بعد نصف قرن من الاستقلال، على حمل العلم الفرنسي، ومصافحة رئيس الدولة التي فعلت الأفاعيل بآبائهم وأجدادهم، وفي أرضهم وعرضهم..
فرنسا لا تبدو مستعدة لأكثر من نصف الاعتراف، في المدى المنظور على الأقل، وهي تدرك أن الاعتراف الكامل سيجرها للاعتذار، والمشكلة الأكبر بالنسبة لباريس ليست الاعتذار، بل التعويض.
باريس تعرف أنها إن اعترفت بجرائمها في الجزائر، ثم اعتذرت عنها، ستجد نفسها "مجبرة" على تقديم تعويضات للجزائر والجزائريين، ولما كان الأمر يبدو مستحيلا، في الزمن الراهن على الأقل، فإن الجزائريين لا يريدون، أو بالأحرى لا ينتظرون شيئا من "فرنسا".. ولكنهم ينتظرون الكثير من القائمين على "الذاكرة"، ويأملون أن تقود وزارة المجاهدين عملية كتابة التاريخ، وهي عملية صعبة جدا، ولكنها بالغة الأهمية ليس في كشف الحقائق كما هي فقط، ولا في تعريف أجيال الاستقلال بما فعله أبناء نوفمبر فحسب، بل كذلك في حمل فرنسا على الإقرار بجرائمها كلها والاعتذار عنها وتعويض ضحاياها مثلما حملها شهداء ومجاهدو ثورة التحرير الباهرة على حزم حقائبها ومغادرة أرض الجزائر الطاهرة..

زيتوني ينادي.. هل من مجيب؟
على بُعد أسابيع قليلة من الاحتفال بمرور ستين عاما على اندلاع أعظم ثورات القرن العشرين، ثورة نوفمبر 1954 العظيمة، أطلق وزير المجاهدين الطيب زيتوني تصريحا قال فيه أنه على الأجيال الجديدة الاستلهام من قيم نوفمبر ومضاعفة الجهود لتحقيق تنمية أكبر للبلاد وضمان ازدهارها واستدامة استقرارها".. هذا التصريح يمكن وصفه بـ"المرجعي" لكونه يرسم خارطة طريق أمام أجيال الاستقلال، ترتكز على الماضي المجيد للجزائر، ولاشك أن ثورة نوفمبر هي أيقونة هذا الماضي، وهي نقطة إشعاعه التي يمكنها أن تنير درب مستقبل الجزائر، شريطة استلهام قيمها بالطريقة الصحيحة، وقبل ذلك الحفاظ على الذكرى والذاكرة بكتابة منصفة للتاريخ.. تاريخ ثورة نوفمبر.
زيتوني يرى أن مجهود تنمية وتطوير البلاد وسعيها الدائم للرقي يمثلان "لحمة مقدسة " بين جميع الجزائريين، ويشير إلى "الأهمية التي يكتسيها بالنسبة لبلادنا العيش في كنف الكرامة والعزة كما أراد ذلك الشهداء الأبرار"، مضيفا أن ذلك يجب أن يتأسس على العلم والتكنولوجيا.
هذه المقاربة الواقعية تعطي صورة واضحة عن الأثر الذي يلعبه تاريخ الجزائر بوجه عام، ومجد ثورة نوفمبر بوجه خاص، في حياة الجزائريين اليوم وغدا، فالشهداء ضحوا بأنفسهم لتحيا الجزائر حرة مستقلة، وليعيش الجزائريون حياة كريمة، وذلك لن يتأتى إلا باستلهام قيّم آبائنا وأجدادنا الذين تخلوا عن أنانيتهم وقدّموا الوطن دائما على مصالحهم الشخصية.. وما أحوج الجزائر إلى مثل هذه القيّم الراقية.. ليكون يومها خيرا من أمسها، ويكون غدها خيرا من يومها..
























































































التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

جميع الحقوق محفوظة

أخبار الجزائر والعالم

2020